فى ظل مستجدات وتغيرات طرأت على الأسرة فى زمن أصبح العالم كله قرية صغيرة بلا حدود وبلا حواجز، لا تزال الأسرة هى العمود الفقرى فى المجتمعات رغم التطورات والتغيرات الهائلة التى أثرت تأثيرا ضخما فى علاقة الأبناء بالوالدين، ورغم حدوث عدة فجوات فى هذه العلاقة إلا أنه لا يزال الوالدان هما ركنا الأسرة وأساسا مجتمعهما والمجتمع ككل.
نقول هذا رغم أن هناك مقارنة دائمة بين الأسرة فى الماضى والحاضر، حيث كانت الأجواء العائلية فى الماضى أكثر ألفة وتراحما وتقاربا ونقلا للخبرات والمعرفة والحكمة، لأسباب عدة، أبرزها حرص كل طرف على مسئولياته، وكثرة الجلوس، وتبادل الأحاديث ووجود القدوة والمثل والحياة الهادئة الدافئة دون صخب أو شغب، فأصبحت السكينة والرضا سلاح الجميع فى وجه الدهر، أما فى الحاضر فالعزلة والانطوائية سمة الحياة، والتواصل أصبح افتراضيا، والحياة مزدحمة والمشاعر مزدوجة، فانتقلت أحاديث السمر والسهر إلى الشتات ومنصات السوشيال ميديا، وقلت الزيارات والصلات، وسكتت الكلمات وارتفعت رنات التليفونات، وسيطر الطموح والوصول السريع وزاد معه الانشغال والمتطلبات، وقصر الوقت وقلت البركة مع غياب القدوة واتساع الفجوة.
ونتيجة اتساع هذه الفجوة أصبحنا أمام اتهامات متبادلة بين الطرفين، فالآباء يشتكون من قلة المشاعر والاحترام والعناد والعصبية، وانعدام التواصل والاتصال، فيما يشتكون الأبناء، أن الآباء "دقة قديمة" بعيدون عن مفردات عصرهم، فنجد مثلا، رفض الأبناء المحاسبة على التأخير خارج المنزل، والجدال الدائم على طريقة اللبس والموضة، والتذمر من الجلوس أمام الإنترنت، وكثرة الأحاديث الهاتفية، والاختلاف على طريقة الكلام، لتكون الحالة كل يغنى على ليلاه.
وما بين هذا وذاك تظل "العولمة" ببصمتها السلبية والإيجابية ظاهرة عصرنا هذا وواقعا حتميا لا بد من العيش فيه والتعامل بمفرداته ومستجداته وإلا كلا الطرفين سيخسر، لأنه مهما كان الحال تبقى وستبقى تربية الأبناء من أفضل الأعمال والقربات إلى الله عز وجل، فهى مهمة الأنبياء والرسل.
لذا.. يجب الحذر كل الحذر من تأثيرات تلك المستجدات، فعلينا نحن الآباء أن نعلم أن هناك مسئولية تقع على أكتافنا مهما كان الحال، ونعلم أن مكمن الخطورة الحقيقى فى الابتعاد والانشغال عن أبنائنا، فعندما ينشغل الأب فى عمله دائما، والأم منشغلة أيضا بعملها أو بشؤون بيتها أو بمشاغل الحياة الأخرى، وعندما نفقد التسلح بالمواكبة والمعاصرة، فيقينا تتسع الفجوة وتزيد العزلة وتُملء الفراغات بفرقعات هواء لا طائل منها على حساب ثوابت الفطرة والدين، وعلينا أن نعلم أيضا نحن معاشر الآباء أن الأبناء فى النهاية هم أمل ورجاء المستقبل، فبهم تُناط الآمال وبهم تنهض الأوطان.
ونقول للأبناء، لا تأخذون من المعاصرة والحداثة ذريعة لتصرفاتكم وأفعالكم، فسيظل الوالدين هما الجذور التى تربطكم بالحياة، فهما الأغلى على الإطلاق، فالصديق له بديل، والأخ يعوض بأخ، أمام الوالدين فلا بديلا لهما مهما حييتم، وألّا ننسى جميعا أن كتابنا العزيز، وهو الصالح لكل مكان وزمان، جاء فى محكم تنزيله "وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا"...