ثمة أغانى خرجت من السينما، فأصبحت علامة للفيلم؛ في نفس شهرته وربما أشهر.. كامننا من فيلم "إسماعيلية رايح جاي" (1997) إخراج كريم ضياء الدين من هذه الأغاني، وبعيدًا عن التقييم الفني أو النقدي لها؛ فإن هذه الأغنية يمكن أن نصفها بأنها "متلازمة" الفيلم، إن جاز التوصيف.
أتذكر كامننا الآن في خضم طغيان الجدل حول الأغاني وحفلات الصيف التي لم توقفها كورونا أو تبعاتها، من الكلام الذي لا ينتهي عن أغاني المهرجانات والصراعات المهرولة نحو الراب، إلى حفلات روبي أو هيمنة عمرو دياب على الشواطئ.. لكن لماذا كامننا تحديدًا وبعد ربع قرن تقريبًا من صدورها؟ هل لأنها كانت نقطة انطلاق لأغاني استخدمت لغة جديدة وغرائبية؟ .. لكنها في رأيي ليست كذلك، وإلا كيف نرصد أغاني أحمد عدوية مثلًا في السبعينيات وامتداداتها المتنوعة في الثمانينيات؟!..
إذن يمكن أن نعتبر كامننا هي الأغنية المفصلية في السينما والواقع، ظهرت في مرحلة صعبة من تاريخ السينما وتاريخنا، أحب أن أسميها مرحلة "البرزخ"، وهي المرحلة التي تعتبر جسرًا بين قرنين، والتي تضم السنوات الخمس الأخيرة من القرن العشرين أكثر القرون زخمًا وإثارة في تاريخ البشرية، كما تضم السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين الذي بدأ بأعنف موجة من التبدلات القيمية والتغيرات السياسية والاقتصادية العاصفة، بحيث يمكن القول إن هذه السنوات هي الجسر الفاصل بين عالمين مختلفين، وليس بين قرنين وفقط.
هذا الفهم الذي قادني لمصطلح "سنوات البرزخ"، لم يكن اختيارًا مسبقًا، لكنني اصطدمت به أثناء متابعتي ودراستي لملامح الأجيال الجديدة التي سادت طوال هذه السنوات منذ عام 1996 وحتى الآن، بل أن أوهامي أوقعتني في فخ تبديد الكثير من الوقت على خلفية اطمئناني أن المهمة سهلة، بعد أن وصل الجميع إلى تقييمات مستقرة لما نسميه "موجة أفلام الشباب"، أو "الكوميديا الشبابية الجديدة"، أو "المضحكون الجدد"، مع ملاحظة أن الاستقرار على هذه المسميات لا يعني اتفاقًا نهائيًا حولها، فنحن لم نتخل بعد عن ثنائية "مع وضد" وهي ثنائية تعبر بشكل سطحي عن اختلافات في التقييم، لكنها لا تنفي الموجة السائدة بقدر ما تعترف بها وتكرس لها، بل تغازلها وتخطب ودها أحيانًا ..
ذات الحال مع أغنية "كامننا"، التي جاءت في الفيلم مسايرة لحالته الفنية المتعجلة، قام بتلحينها رياض الهمشري بينما وزعها أشرف عبده، اللحن مبهج والتوزيع يبرز هذه البهجة من خلال الأكرديون والترومبيت يصاحبهما الآلات الإيقاعية، حالة تعتريها وفرة من الفرح تزداد بكلمات كتبها الشاعر عنتر هلال بعد ما أخبروه، حسب تصريحاته الصحفية المتعددة، أن أغنيته ستكون فاصلة في أحداث الفيلم، في المرحلة الانتقالية لأبطال الفيلم من التعاسة واليأس إلى السعادة والاستبشار والنجاح، يقف بطل الفيلم في مواجهة صديقه ورفيق عمره، يحاول أن يطيب خاطره بعد أن لطمه على خده، فيغني له ويسترضيه بكلمات غريبة، تناسبهما كاثنين ينتميان لبيئة شعبية ويحاولان أن يصنعا نوعًا من الطرافة في ديالوج خاص بينهما، لم يقرأ الشاعر سيناريو الفيلم وكتب الأغنية حسب الموقف المحكي له فقط، وبالتالي لم يعرف أن الأحداث تدور بعد نكسة 1967، مرورًا بالعبور، وصولًا إلى السبعينيات التي لم يكن قد ظهر فيها بعد لا الدش ولا الموبايل:"أجيب لي دش مع الموبايل والحتة الكوبيه"، لم ينتبه صناع الفيلم إلى هذه "الغلطة" التاريخية، كان كل هدفهم هو الانتهاء منه بأية طريقة، بل إن مخرجه تبرأ منه قبل العرض حتى أنه طالب برفع اسمه قبل أن يشهد النجاح المفاجئ.
النتيجة مباغتة صحيح، لكنها ليست مبررًا لأحكام فنية سادت بعد ذلك، فمن البديهيات السهلة التي ارتكن إليها الجميع ومازالوا، اعتبار أن فيلم "إسماعيلية رايح جاي" هو كلمة السر في انطلاق موجة الأفلام الكوميدية الجديدة، ولم يقل لنا هؤلاء المروجون للأحكام السهلة: ولماذا كان هذا الفيلم بالذات هو كلمة "افتح يا سمسم" التي فتحت المغارة أمام جيل من صغار الممثلين المحبطين، كما فتحت شهية المنتجين لضخ أموالهم في تقديم العديد من الأسماء الصغيرة، وأدت إلى جرأة تجاهل النجوم لصالح الوافدين الجدد، وهي ظاهرة ربما تحدث بهذا العنف للمرة الأولى في تاريخنا السينمائي الذي سار منذ نشأته على أسلوب "سيطرة النجم" كما تعلمناه من هوليوود.
"إسماعيلية رايح جاي" ظهر رسميًا في عام 1997 بعد فترة من التعثر الإنتاجي، أدت إلى تنفيذه بشكل تجاري بطريقة "تقفيل الفيلم" بأرخص التكاليف تجنبًا للخسائر، لكن الفيلم سيئ الإعداد والحظ، تحول إلى "تميمة حظ" للمشاركين فيه، ثم لأعداد كبيرة من المنبوذين سينمائيًا بحكم الطبخة التقليدية السائدة في الإنتاج والتوزيع، وكذلك الذوق السينمائي السائد حينذاك..
كانت السينما المصرية كعادتها تعاني من قلق عنيف واضطرابات في السوق لأسباب متعددة ومركبة يمكن أن نركز على ثلاثة مستويات منها: الأول خارجي ويتعلق بظروف حرب الخليج الثانية مع مطلع التسعينيات وما تلاها من متغيرات سياسية واقتصادية ومزاجية عاصفة، والثاني ظروف الصناعة في الداخل والتي كانت قد وصلت إلى درجة من البؤس والتخلف في الاستوديوهات ومعدات التصوير، ودور العرض وتجهيزاتها، بالإضافة إلى تشظي شركات الإنتاج وبروز سينما المقاولات الرخيصة على المستويين الفني والإنتاجي والتي كانت تسد جوع جمهور الفيديو، وهذا يقودنا إلى المستوى الثالث المتعلق بـ"صراع الأنواع"، حيث استطاعت ثورة الفضائيات الصاعدة بقوة حينذاك أن تستولى سريعًا على ميراث الفيديو، وتعيد صياغة تطلعات المنتج والفنان والمتلقي وفق أسلوب جديد أزعم أنه لا يزال يسيطر حتى الآن.
لا يمكن أن نتجاهل مجموعة من العوامل الأخرى التي واكبت تنصيب "إسماعيلية رايح جاي" رائدًا للموجة الشبابية الجديدة، وهي عوامل قد تبدو للبعض أنها بعيدة عن فن صناعة السينما، مثل دخول عصر الكمبيوتر والإنترنت، والقصف الإعلامي المكثف الذي استهدف تطبيع العقول لتقبل مفاهيم الكونية والعولمة، وهي المفاهيم التي تحدث عنها من قبل عالم الاتصالات الكندي مارشال ماكلوهان وصاغها في عبارته الشهيرة "العالم أصبح قرية كونية صغيرة"، كما أشار إلى نبوءة انتصار الشكل على المضمون عبر دراسته الهامة "الوسائل هي الرسائل"، بمعنى أن جهاز التليفزيون في حد ذاته هو الرسالة التي يستقبلها الجمهور ويتعود عليها ويخضع لها، وليس المضمون الذي يقدمه التليفزيون، فإذا تعود الناس على الجهاز وألفوه فإنهم بعد ذلك سيكونون مؤهلين للاقتناع بأي مضمون يشاهدونه فيه، أو على الأقل سيكونون مستعدين للتفاعل مع هذا المضمون بالتأييد أو الرفض، لكنه في كل الأحوال سيكون ركنًا مهمًا في حياتهم وبرنامجهم اليومي.
وبالطبع لم يكن هذا المثل التليفزيوني بعيدًا عن السينما، كما لم يكن الترويج للعولمة بعيدًا عنها، حيث كانت ظاهرة "المول" تنتقل عبر المحيط لتجد لنفسها مكانًا في بلادنا، فتنتقل معها ما يسميه المفكر الفرنسي ايناسيو رامونيه "ثقافة المول" أو ما يسميه مواطنه ريجيس دوبريه بـ"الفيديولوجيا" وهو المصطلح الذي قال دوبريه أنه وريث "الأيديولوجيا"، بما يعنيه ذلك من انتصار للاستهلاك الفوري الذي يروج له التليفزيون (الفيديو) على حساب الأفكار والقناعات (الأيديولوجيات)، بل إنه أكد في كتابه "الميديولوجيا: علم الإعلام العام" أن هذه "الفيديولوجيا" هي السبب الأساسي في سقوط وتفكك الاتحاد السوفيتي وافساح الطريق لهيمنة أمريكا على العالم.
ما أريد أن أقوله من هذه الفقرة الاعتراضية الطويلة، إن "إسماعيلية رايح جاي" كان مجرد ذريعة أكثر منه إنجاز سينمائي، وسواء ظهر هذا الفيلم أو لم يظهر فإن السينما المصرية كانت في طريقها إلى ماهي فيه الآن، لأن شيئًا لا يأتي من الفراغ ولا يذهب إليه، أو حسب تعبير الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل: "ليس هناك أقوى من فكرة آن آوانها"، ومن الواضح أن الآوان كان قد آن لانتقال السينما المصرية لمرحلة جديدة لم يساهم فيها صناع السينما المحليين، ولا النقاد، ولا الدولة المضغوطة بعنف تحت ثقل المتغيرات العالمية، بقدر ما ساهمت في هذه النقلة سياسات وممارسات محلية وكونية هي بنت الزمن واللحظة، ولم تكن مجرد صدفة عمياء أو ضربة حظ، أو مجرد قرارات وإنجازات مبعثرة تبدو بعيدة عن بعضها مثل قانون الشركات الإنتاجية الذي أثار زوبعة في فنجان وبعدها ما كان مخططًا له أن يكون كان، أو ظاهرة التوسع في دور العرض السينمائي والتحسين المذهل الذي طرأ على معدات الصوت والتصوير وماكينات العرض، أو تصميمات الدعاية، وثقافة التلقي التي خرجت بمشاهد السينما الجديد من محراب دار العرض الواحدة المهيبة إلى زحام "المول" ومطاردته بإلحاح التسوق والتشتت الإعلاني، والاختيارات الجاهزة والسهلة المستمدة من زمن "الأوبشن" حسب لغة الكمبيوتر، والمستمر معنا الآن في المنصات الإليكترونية وغيرها.
اللحظة التاريخية كلها كانت ضد القديم المعلوم الذي استنفذ أغراضه، ومع الجديد المجهول الذي لا نعرف له هدفا سوى التغيير التجديد، وبالطبع لابد أن يكون الجديد مبهرًا ومغريًا، بصرف النظر عن أهدافه وقيمته الحقيقية، فلا مكان للأفكار (الأيدلوجيا) كما عرفنا، لأن الصورة أصبحت هي الأساس، ولا مكان للمضمون لأن الشكل أصبح هو "السيد" وهو "الرسالة المبتغاة"، ولا مكان للوطن بعد أن أصبح "الكون هو الكينونة"، وبعد أن أصبحت "العولمة هي العلم"، وتلاشت الحدود، وتحطمت الأنساق، وانفجرت البِنَى، وماتت السرديات الكبرى، وتاهت المعاني، وأصبحنا نعيش في زمن الاجتزاء و"الاسكتش" والقصاصات المبعثرة، وليست مصادفة أن تظهر كامننا، لا معنى من الناحية اللغوية للكلمة؛ لكنها كمطلب مادي تعني الحاجة الهائلة، العظيمة: نفسك في إيه؟ كامننا!!.. تحلم بإيه؟ كامننا!! وهتسمع إيه؟ كامننا!!
أغنية مشفرة وكلمات غامضة، ملغزة: "كاتش كادر في الألولو كامننا .. حب نادية وحب لولو كامننا"، كلمات ليست ضمن اللهجة العامية الدارجة، لكنها لاقت رواجًا كنوع واستايل جديد لـ"روشنة" التسعينيات والتطلع للخروج من جلد الواقع الصعب إلى مساحة من الرفاهية أو الانقلاب على اللغة التقليدية، كما فعل بطلا الفيلم في الأغنية التي يحلمان فيها بالنجاح والسيارة الفخيمة والفتاة الجميلة، وأظن هذا من أهم أسباب نجاح الأغنية التي أسهمت في رواج الفيلم، لأن الجمهور تلاقى مع بطلي الفيلم عند هذه النقاط في الحلم بالصعود، إنهم لا يطلبون الكثير مجرد "تلاتين تلاف جنيه .. نشرب كازوزا في العجوزة مع استاكازوا إيه واجيبلي دش مع الموبايل والحالة تكون إيه"، إنهم شباب بسطاء وقلوبهم عامرة بالطيبة، يطمحون في غد أفضل:" ولا يابتاع الفل يا ابو قلب زي الفل لو النهار ظالم بكرة هتبقى فل"، لكن الدنيا تعاندهم:" الدنيا ليه معاندة معانا ليه مش بتيجي على هوانا ولما جيتي تصالحينا عملتي قال مش سامعانا"، وإذا استمرت الدنيا في هذا العناد؛ فليس بوسعهم سوى أن يقولوا:" كاتش كادر في الألولو كامننا".