في الوقت الذى تتزايد فيه الانتقادات لإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، على خلفية المستجدات على الساحة الأفغانية، يبقى تمرير خطته لتحديث البنية التحتية بمثابة انتصارا مهما له، في المرحلة الراهنة، خاصة مع الجدل الكبير الذى صاحبها، في ضوء انتقادات حملها قطاعا كبيرا من الساسة، سواء من خصومه الجمهوريين أو حتى بين أنصاره الديمقراطيين، بسبب تكاليفها التي تقترب من مليارى دولار، ناهيك عن طريقة التمويل التي تعتمد على فرض المزيد من الضرائب، وهو ما أثار حفيظة قطاع كبير من الأمريكيين، إلا أن تمرير القانون من مجلس الشيوخ يمثل انتصارا مهما، باعتباره العقبة الأكبر، مع تساوى كفتى الحزبين داخله، بينما يحظى أنصار الرئيس من الديمقراطيين بأغلبية مجلس النواب، وهو ما يعنى أن رؤية بايدن قاب قوسين أو أدنى من الانتصار في الداخل الأمريكي.
ويعد الاعتماد على البنية التحتية بمثابة خطوة مهمة، لاسترضاء قطاع كبير من المواطنين في الداخل، خاصة مع حالة الانقسام التي ضربت المجتمع الأمريكي، منذ الانتخابات الرئاسية الأخيرة، تجلت في احتجاجات على فوز بايدن، وصلت إلى ذروتها في مشهد اقتحام الكونجرس الأمريكي في 6 يناير الماضى، في سابقة جديدة، بالمشهد السياسى الأمريكي، وهو ما يمثل انعكاسا صريحا لحالة كبيرة من الرضا بين الأمريكيين على أداء الإدارة السابقة، خاصة على الجانب الاقتصادى، وقدرتها على تقليص معدلات البطالة بين الأمريكيين، زيادة معدلات النمو الاقتصادى.
وبالتالي، تبقى مشروعات البنية التحتية أحد أهم الأدوات التي تستعين بها إدارة بايدن، لتحقيق التنمية الاقتصادية، واستيعاب أعداد كبيرة من العمالة، وبالتالي تقليص معدلات البطالة، في الداخل الأمريكي، جنبا إلى جنب مع دعم الصناعة الأمريكية، على حساب الواردات القادمة من الخارج، في امتداد صريح لشعار "أمريكا أولا"، والذى سبق وأن رفعه الرئيس السابق دونالد ترامب، ليكون بمثابة الأساس الذى سارت عليه إدارته طيلة السنوات الأربعة الماضية.
إلا أن الرهان على البنية التحتية لا يقتصر في نطاقه، على مجرد انتصار الرؤية الحزبية الضيقة، في الداخل الأمريكي، وإنما تحمل في طياتها أبعادا أخرى، أبرزها إعادة بناء الداخل، في ضوء المستجدات الدولية الجديدة، خاصة مع تراجع الدور الذى باتت تلعبه واشنطن، لصالح قوى أخرى، وعلى رأسها الصين وروسيا، واللتين حققتا نجاحا منقطع النظير، على الصعيد الاقتصادى، ليس فقط على مستوى الداخل، ولكن من خلال ربط الداخل بالخارج، عبر مشروعات، يمكن من خلالها تحقيق منافع كبيرة لهما ولشركائهما الدوليين، وبالتالي اقتحام مناطق النفوذ الأمريكي، خاصة في أوروبا الغربية، التي شهدت علاقة واشنطن معها ارتباكا كبيرا، خلال حقبة الرئيس السابق دونالد ترامب، بينما مازال بايدن لم يحقق نجاحا كبيرا في ترميمها حتى الآن.
وهنا تصبح رؤية بايدن لتحديث البنية التحتية، ليست مجرد، خطة لإعادة بناء الاقتصاد الأمريكي، وإنقاذه من التراجع في مواجهة القوى الصاعدة بقوة لقيادة العالم، عبر بوابة الاقتصاد، وإنما تمتد إلى كونها مخطط أكبر يهدف إلى استعادة المجد الأمريكي، عبر إعادة واشنطن إلى الصدارة الاقتصادية في العالم، من جانب، بالإضافة إلى تلبية متطلبات المرحلة الدولية الجديدة، من خلال الاعتماد على أدوات صديقة للبيئة، في إطار توجه عالمى لمجابهة التغيرات المناخية، والتي تمثل التحدى الأكبر في المرحلة المقبلة، وربما لم تخرج عنها قواعد النظام الدولى الجديد، في ظل التداعيات الكبيرة التي تشهدها العديد من مناطق العالم، على غرار الفيضانات والحرائق التي اجتاحت العديد من الدول في السنوات الأخيرة.
ولعل سياسة "مصادقة البيئة"، بمثابة خطوة أمريكية ضرورية، بعدما استطاعت بكين أن تحقق سبقا مهما، يرقى إلى درجة الانتصار على الغرب، فيما يتعلق بتقليل الانبعاثات الكربونية، على الرغم من أنها كانت أكثر الدول اعتمادا على الفحم، قبل عدة سنوات لم تتجاوز العقد الواحد من الزمان، في الوقت الذى شهد الموقف الأمريكي قدرا كبيرا من الارتباك، حول الالتزام بالمعايير البيئية، ليس فقط على مستوى تقليل الاعتماد على الوقود الأحفورى، وإنما امتد إلى المستوى السياسى عبر الانسحاب من اتفاقية باريس المناخية، خلال حقبة ترامب، وهو ما يعكس، رغم العودة إليها، بعد تنصيب بايدن، أن الموقف الأمريكي من البيئة ليس بالثبات المطلوب، على غرار مواقفها الأخرى من الحلفاء، ومختلف القضايا الدولية الأخرى.
يبدو أن بايدن يؤمن بحقيقة مفادها أن الريادة الدولية والإقليمية أصبح مرتبطا بقدرة الدولة على تحقيق التنمية الاقتصادية في الداخل، تمهيدا لتحقيق الريادة على المستوى الاقتصادى العالمى، وبالتالي فإن التراجع النسبي للولايات المتحدة، لصالح قوى أخرى، بات مرتبطا إلى حد كبير بالتركيز على الأوضاع الدولية على حساب الاقتصاد، من خلال مزايا اقتصادية دأبت واشنطن على منحها لحلفائها مقابل ولائهم لها، في الوقت الذى نجح فيها منافسوها الدوليين في عقد شراكات مع العديد من دول العالم، من شأنها تحقيق المصالح المشتركة، وكانت مدخلا مهما لتوطيد نفوذها الدولى في مناطق عدة حول العالم، وعلى رأسها مناطق نفوذ واشنطن التقليدية.