إن قلت إن الكاتب العالمى نجيب محفوظ (1911-2006) الذى تمر اليوم ذكرى رحيله، كان فاهمًا للحياة بصورة كبيرة، فإننى لن أقول جديدًا، ولكننى مهتم بتتبع كيف كان يفعل ذلك؟.
بعيدًا عن العمر المديد الذى رزقه الله سبحانه وتعالى لنجيب محفوظ حيث عاش 95 عاما لم تفارقه ابتسامته ولم تخفت ضحكته حتى فى ظل الظروف الصعبة التى مر بها، ومنها حادث الاعتداء الآثم الذى تعرض له فى أكتوبر من سنة 1994، على يد الجهلة والمتطرفين، فقد كان محفوظ يملك روحا مرحة على الدوام ويمكن أن نلاحظ ذلك فى حواراته ولقاءاته.
أما فى أعماله الأدبية فكونه مغرمًا بتتبع المصائر، فقد كان يدرك دائما أنه سيكون من بعد قوة ضعفًا، وتكفى شخصية "السيد أحمد عبد الجواد" بطل "الثلاثية" الشهيرة لتعرف أن الجميع فى النهاية يستسلمون للزمن القاسي، لذا أوقن نجيب محفوظ طالما أن الاستسلام لا مفر منه فلماذا نستعجله؟.
ومن قرأ رواية "حديث الصباح والمساء" أو حتى شاهد العمل التليفزيوني المستوحى منها، سيعرف بصورة مباشرة رؤيته فى الحياة والموت، لقد كان يعرف أن كل شيء إلى نهاية، وأن الذين يأتون من بعدنا لن يشغلوا أنفسهم كثيرا بنا نحن الذين انقضت أيامنا، فحياتنا بطولها وعرضها ليست أكثر من نصف صفحة فى رواية قصيرة، لقد كانت لنا حياتنا، وهم لهم حياتهم، لذا لم يكن يسمح بالقلق المتزايد أن يسيطر عليه.
أما ملحمة الحرافيش بكل ما بها من سطوة وجبروت، فقد كانت الأحوال فيها سريعة التبدل والتغير، فنجد فتوة يضرب على أم رأسه، وصعلوكا يصبح فتوة، وفقيرا يثرى، وثريًا يتسول قوت يومه، نعم، إننا لا نعرف شيئًا عن غدنا، فقط علينا أن نعيش للغد كى نعرف.
هكذا كان نجيب محفوظ محيطا بالدنيا، يعرف ضعفها وقوتها، فاختار أن ينجو بنفسه وخفة روحه، قال فى نفسه ليأتى النجاح وتهل الشهرة، ثم ليأتى الضعف يتبعه الموت، فلقد قرر ذات يوم مبكر من حياته أن هذه أمور لا يملك زمامها تمامًا، ولكنه يملك زمام رؤيته لها، فعاش راضيًا يعمل بجد وصبر وانتظام، مرحًا قدر استطاعته ومبدعا أكثر مما نتخيل نحن.