ربما كانت فكرة "خارج الصندوق"، أن تدشن مصر تحالفا متوسطيا مع اليونان، وقبرص، مع انطلاق حقبة الرئيس عبد الفتاح السيسى في عام 2014، ليس فقط لكونها مختلفة عن الأعراف الدبلوماسية، التي سادت العصور السابقة، والتي ارتكزت في العلاقة مع أوروبا، على الدول الرئيسية في الجانب الغربى من القارة، ولكن أيضا، للحالة الاقتصادية الصعبة، التي تعيشها، الدولتان، على خلفية التأثر الشديد من جراء الأزمات المتلاحقة، وعلى رأسها الأزمة المالية العالمية، والتي كانت تبعاتها مازالت قائمة، مما دفع الدولتان إلى الاستدانة من دول الاتحاد الأوروبى، ليشكلان معا عبئا اقتصاديا كبيرا على دول القارة، ربما كان بمثابة الاختبار الأول للتكتل القارى الأقوى في العالم.
إلا أن الخطوة المصرية، والتي بدأت منذ 7 سنوات، كانت تحمل رسائل متعددة الأبعاد، ربما أبرزها للقوى الدولية الكبرى، مفادها أن الجمهورية الجديدة لن تعود مجددا للاعتماد على "الدعم" المقدم لها من الخارج، وإنما ستعتمد على نهج يقوم على الشراكة، مع دول، ربما لا تحظى بالنفوذ الذى تحظى به القوى التقليدية، ولكن تبقى لديها الإمكانات السياسية والاقتصادية، التي يمكن استغلالها، عبر التعاون معها، ليصب التحالف في مصلحة الدول الثلاثة، وبالتالي يمكن، من خلاله تحقيق قدر من الاكتفاء، وعدم الاعتماد على الهبات القادمة من الخارج، وهو ما يساهم بالطبع في مزيد من الاستقلالية في القرار السياسى، وإيجاد ظهير دولى قوى، في مواجهة التحديات الجديدة، سواء في صورة أزمات طويلة المدى، على غرار أزمة كورونا، والتي ضربت العالم بعد تدشين التحالف بسنوات معدودة، أو أي محاولات دولية لفرض رؤى معينة تتعارض مع مصالح الدولة الوطنية.
ولعل الرؤية المصرية الجديدة ساهمت بجلاء في تحقيق طفرة اقتصادية كبيرة في اقتصاد الدول الثلاثة، عبر اتفاقية ترسيم الحدود البحرية، وتدشين منتدى غاز شرق المتوسط، إلا أنها في الوقت نفسه تجاوزت الاقتصاد، لتضع مصر نفسها في قلب القضايا الأوروبية، وعلى رأسها القضية القبرصية، التي ربما شهدت تهميشا واضحا من قبل القوى الدولية الكبرى، سواء الولايات المتحدة أو دول أوروبا الغربية، لعقود طويلة من الزمن، لأسباب تتعلق بمخاوف الانقسام داخل الناتو، نظرا لوجود أطراف مناوئة لـ"الحق القبرصى"، داخل الحلف، لتتجاوز مصر نفوذها الإقليمى التقليدى، الذى اقتصر على منطقة الشرق الأوسط، إلى مناطق أوسع، تؤهلها للقيام بدور بارز كشريك مهم وحقيقى فى المجتمع الدولى، من خلال التدخل في أزماته.
ويعد التواجد المصرى المؤثر في قلب أوروبا، عبر الدائرة المتوسطية، سببا رئيسيا، فى تقوية العلاقة مع القارة العجوز بأسرها، خاصة مع نجاح التحالف الثلاثى، في تحسين الأوضاع الاقتصادية، في اليونان وقبرص، مما ساهم في تخفيف الضغوط التي واجهتها دول الاتحاد الأوروبى، لسنوات، سواء لتقديم الدعم الاقتصادى لهما، من جانب، أو تفاقم أزمة اللاجئين، والتي باتت تشكل كابوسا سياسيا يؤرق الأنظمة الحاكمة في دول أوروبا الغربية، إثر ما ترتب عليها من أزمات، على رأسها البطالة بين المواطنين الأصليين من جانب أخر، ناهيك عن كابوس "العجز" الأوروبى في التعامل مع الأزمة القبرصية، بسبب ضغوط تفرضها الولايات المتحدة عليهم، باعتبارها القوى الأكبر داخل الناتو، والذى يمثل أهمية كبيرة لحماية الأمن في دول أوروبا الغربية.
وهنا اتسع نطاق الثقة، داخل القارة العجوز، في الرؤية المصرية، في إطار الجمهورية الجديدة، وهو ما يبدو واضحا، ليس فقط في خطابات الزعماء، أو رسائل الشكر البروتوكولية، وإنما امتد إلى سياسات واضحة، باتت تتبناها دول أوروبا الرئيسية، لمواجهة أزمات كبيرة، في الداخل، وعلى رأسها معضلة الحرب على الإرهاب، وهو الأمر الذى يتجلى بوضوح، على سبيل المثال في مواقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والذى اتخذ خطوات كبيرة، من شأنها تحقيق التوازن بين الإجراءات الأمنية، تجاه دعاة العنف، ومسار فكرى، قائم على تعديل الخطاب الدينى، عبر تشكيل مجلس للأئمة المسلمين، وحظر ما يمكننا تسميته "استيراد" الخطباء من الخارج، حتى تتفادى باريس خطابا يتعارض مع مبادئها.
يبدو أن الدور المصرى، في ظل الجمهورية الجديدة، بات يتجاوز نطاق الجغرافيا التقليدية، والأبعاد التاريخية المتعارف عليها، حيث أصبحت الدور الذى تلعبه القاهرة ملموسا في مختلف مناطق العالم، وهو ما يبدو في الاختلاف الكبير في رؤية العالم لمصر، والذى تحقق في غضون سنوات معدودة، في انعكاس صريح للنجاح الكبير للرؤى المصرية في مختلف الاتجاهات.