"أوروبا الجديدة".. شعار جديد ربما تحمل الأيام القادمة، في خضم التغيرات الدولية الكبيرة التي تشهدها، في إطار مرحلة من المخاض، سوف ينجم عنها، لا محالة، ميلاد نظام دولى جديد، حيث تسعى الولايات المتحدة، إلى الاحتفاظ بمكانتها على "العرش" العالمى، بينما تحاول قوى جديدة فرض رؤيتها، وعلى رأسها الصين وروسيا، في الوقت الذى تصبح فيه القارة العجوز محلا للاستقطاب، بين القوى المتنافسة، باعتبارها، في صورتها الموحدة، قوى اقتصادية وسياسية كبيرة لديها الكثير من الزخم، كما أن دولها، بصورتهم الفردية، يحظون بمكانة سياسية كبيرة، بحكم العديد من العوامل، أبرزها القوة الاقتصادية ومكانتها الدولية الكبيرة، التي ساهمت بصورة كبيرة في احتفاظ واشنطن بهيمنتها المنفردة على العالم، لعقود طويلة من الزمن، ناهيك عن عوامل التاريخ والجغرافيا، والتي شهدت هيمنة امبراطورية للقارة على العالم، في مراحل ما قبل "البزوغ" الأمريكي.
الدور الكبير لأوروبا يبدو "مغريا" للقوى المتنافسة، وهو ما خلق استقطابا دوليا حادا للقارة العجوز، ظهر بوضوح في تزايد النفوذ الروسى والصينى، خاصة مع سياسة "الانقلاب" التي تبناها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، تجاه حلفائه، بينما لم يتخلى عنها خليفته جو بايدن، والذى يسعى نحو تصعيد بريطانيا "المتمردة" على "أوروبا الموحدة"، إلى القيادة القارية، على أنصار الاتحاد الأوروبى، وعلى رأسها ألمانيا، والتي قادت أوروبا لسنوات طويلة، خاصة خلال حقبة أوباما، أو فرنسا الساعية لاستغلال الفراغ الناجم عن اقتراب تقاعد المستشارة أنجيلا ميركل لتحل محلها، وهو ما يساهم بصورة كبيرة في خلخلة الكيان الأوروبى المشترك، وربما يدفع إلى تقويضه، في المستقبل، خاصة مع صعود النزعات اليمينية المناوئة لمبادئ الوحدة والحدود المفتوحة، خلال السنوات الأخيرة.
ولعل التغيير الكبير في الرؤية الأمريكية تجاه أوروبا، تجلى فى العديد من المواقف، ربما أخرها الاتفاق الأمني بين أمريكا وبريطانيا من جانب، وأستراليا من جانب أخر، يقوم على قيام الأخيرة بإلغاء طلب غواصات فرنسية الصنع، فيما يمثل صفعة قوية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قبل شهور معدودة من الانتخابات الرئاسية والمقررة في إبريل القادم، مما يفتح الباب على مصراعيه أمام تزايد فرصة حزب الجبهة الوطنية، والذى يمثل اليمين المتطرف، ومرشحته مارين لوبان لاعتلاء عرش الإليزية، وهو ما يعد بمثابة مسمارا جديدا في نعش "أوروبا الموحدة".
وهنا يصبح المشهد الأوروبى أشبه بـ"إعادة هيكلة" القارة على يد الولايات المتحدة، حيث تقوم السياسة الأمريكية لتحقيق هذا الهدف على مسارين متوازيين، أولهما إضعاف الاتحاد الأوروبى في صورته الكلية، عبر تدجيج القارة بالأحزاب المناهضة للوحدة، بينما يبقى المسار الأخر قائما على إعادة تشكيل الأنظمة الداخلية في الدول التي باتت تحمل "لواء" التمرد على القيادة الأمريكية لما يسمى بـ"المعسكر الغربى"، وعلى رأسهم فرنسا، والتي حملت مبادرات عدة من شأنها إنهاء الاعتماد الأوروبى على واشنطن، سواء أمنيا، من خلال المناداة بتأسيس "جيش أوروبى موحد"، أو اقتصاديا عبر التقارب الملموس مع الصين، والاعتماد على روسيا فيما يتعلق بالغاز.
يبدو أن أوروبا على موعد مع رؤية أمريكية جديدة، تتشابه في ملامحها، مع تلك التي ارتبطت بالشرق الأوسط، إبان "الربيع العربى"، من خلال ما يسمى بـ"الشرق الأوسط الجديد"، وإن كان الأمر هذه المرة ربما أكثر تعقيدا، بسبب اختلاف الظروف، المرتبطة بحالة من الاستقرار النسبى التي تشهدها االقارة العجوز، مقارنة بإقليمنا المضطرب منذ عقود، ناهيك عن تعدد مسارات التنفيذ، والتي تشمل إطارا كليا لتقويض الاتحاد الأوروبى، وأخر فردى، يرتبط بالدول الأعضاء.
المشهد المنقسم في دول المعسكر الغربى، ربما يتطلب وقفة "أوروبية"، تقوم في الأساس على تنويع التحالفات، وتبنى سياسات جديدة، تعتمد خلالها منهجا يقوم في الأساس على التخلي عن "الدعم" الأمريكي الذى طالما اعتمدت عليه دول القارة العجوز، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بينما تنفتح في الوقت نفسه على ما يمكننا تسميتهم بـ"خصوم" الماضى، حتى يمكنهم تحقيق "شراكات" جديدة، يمكن من خلالها تحقيق مكاسب مشتركة في المستقبل، بدلا من سياسة "التواكل" على أمريكا، والتي تخلت عن خلفائها في النهاية، لتسبب صدمات متتالية لهم، سواء على المستوى الاقتصادى أو العسكرى أو الأمني أو السياسى.