يستحق نجمنا المصرى محمد صلاح المحترف فى صفوف ليفربول كل الإشادات التى ينالها خلال الفترة الحالية، حيث وضح جليا مدى تركيزه التام منذ بداية الموسم الحالى، مما جعله يتألق بشدة سواء فى الدورى الإنجليزي أو دوري أبطال أوروبا.
وتلقى هدف الأخير الذى أحرزه محمد صلاح فى شباك مانشستر سيتى إشادة عالمية من نجوم الكرة حول العالم، وكذلك الصحف العالمية، حتى إن البعض أكد على أن يتفوق على ليونيل ميسي وكريستيانو رونالدو بالموسم الحالي، ويستحق لقب الأفضل بالعالم.
بكل تأكيد أن ما يقدمه صلاح فى مشواره الإحترافية، وتحديدًا، عندما حط به الرحال فى محطة ليفربول، يجعلنا نفخر به، إلا أن هذا بالطبع لم يأت من فراغ، ومن هنا سأقدم سلسلة مقالات متتالية عن رحلة صعوده إلى القمة، وذلك من واقع حلقات كتبتها فى وقت سابق عن نجم المنتخب المصرى، حيث أغوص فى بحور العوالم الساحرة لأسطورة العصر الحديث فى الكرة المصرية، ونتعرف إلى تفاصيل جديدة فى حياته وسيرته الذاتية، تكوينه الشخصى، أسرار تنشر لأول مرة عن طفولته وعائلته، وأمور أخرى كثيرة صنعت من حياته رواية تستحق أن تُروى، وصولاً إلى محطة تربعه على عرش أفريقيا وبلاد الإنجليز وأوروبا.
(المحطة الأولى)
محمد صلاح ولد فى قرية نجريج التابعة لمدينة بسيون فى محافظة الغربية، وتحديداً فى يوم 15 يونيو عام 1992، فهو ينتمى إلى أسرة بسيطة مثل أى أسرة تقيم فى الريف المصرى، الأب يعمل موظفا بإدارة الوحدة الصحية فى بسيون، والأم مثل أى أم مصرية تسهر وتتعب من أجل تريبة أبنائها، وله شقيقة كبرى اسمها رباب، وشقيق أصغر نصر، وتوالت الأيام وبدأ يخطو خطواته الأولى مثله مثل أبناء قريته الصغيرة فى لعب الكرة بالشوارع.
«وقعت فى حب الكرة عندما كنت ألعب فى الشارع مع أصدقائى،وكان عمرى لم يتخط الثامنة تقريبا»، هكذا قال محمد صلاح عند الحديث عن ذكرياته فى أكثر من حوار سابق للعديد من القنوات الفضائية، حينما تم سؤاله عن طفولته والسر وراء عشقه للكرة.
الطفل محمد صلاح كان يجرى ويلعب الكرة مع أصدقاء الطفولة، كأنه يلوذ بمكان مسحور لم يكن فى حسه تمامًا أنه سيقوده إلى أحلام كبيرة فيما بعد، كان الاختلاف عنده من طبيعة الأمور، كان يذهب إلى مركز الشباب فى قريته، ويشعر بشىء من الرهبة والأحلام نحو مستقبل غامض مليئا بالطموحات والآمال.
ووفقًا لما قاله صلاح فى أكثر من مناسبة سابقة أنه فى هذه الفترة لاحظ عمه وهبة موهبته بعد كثرة حديث ابن عمه عنه، وفى ذات مرة رآه بالصدفة يلعب كرة فى الشارع مع شقيقه نصر وأصدقائه، واكتشف حجم موهبته الكبيرة، وقام عمه بالحديث مع والده فى هذا الشأن، وبعدها نال قسطا كبيرا من الاهتمام، وبدأ الأب يرسم له خارطة طريق لإظهار موهبته، بعد أن وجد الجميع داخل مركز شباب نجريج الذى كان يلعب فيه صلاح وقتها، يتحدث عن مهارة ابنه الفائقة.
وفى حديث خاص سابق بيني وبين غمرى عبدالحميد السعدنى أحد المدربين الذين دربوا محمد صلاح فى مركز شباب نجريج قال: «رغم صغر حجم صلاح حينما كنت أدربه، إلا أنه كان قوياً ويحارب على كل كرة خلال التدريبات، ومن هنا بدأنا نهتم به، خصوصا الراحل السيد إبراهيم شتيه مدير المركز فى هذه الفترة، الذى كان حريصاً على صناعة أبطال رياضيين، حيث المركز فى عهده كان الأول على الجمهورية، فكنا نمتلك ملعب نجيل طبيعى، وهو ما ساعد أبنائنا ومنهم صلاح فى إظهار مهارتهم وبناءهم بشكل جيد».
وأضاف السعدنى: «كان صلاح يلعب فى مدرسة الكرة بالمركز، وكنت أتولى تدريبه تحت قيادة نصر عبدالرحيم شتيه مدير المدرسة وقتها، وكان الأستاذ محمد الأحول مدرس التربية الرياضية فى مدرسة نجريج الإعدادية من أوائل الناس الذين لفتوا نظرنا لموهبته، وظل يدعمه من خلال حضور التدريبات معه بالمركز».
وتابع: «أتذكر أننا فى ذات يوم تقابلنا مع والد محمد للحديث معه عن موهبته وضرورة الاهتمام، وبالفعل انتبه بشدة وظل يدعم ابنه مادياً ومعنوياً حتى يستطيع تحقيق أحلامه».
وأتم: «أتذكر أن محمد صلاح كان يتدرب فى مركز الشباب وعمره 12 عاماً وكان يأتى بطقم برتقالى الذى يرتديه المنتخب الهولندى لأنه يعشقه بشدة، ولا أتذكر أنه خالف تعليماتى يوما ما وكان يحضر قبل التدريب بوقت كاف على عكس باقى زملائه».
القدر بدأ يلعب لعبته مع محمد صلاح منذ تلك اللحظة، ففى عام 2002 رشحه نصر شتية للانضمام إلى صفوف نادى بلدية المحلة، ولكن صعوبة السفر يوميا من مدينة بسيون لمدينة المحلة جعلته يغادر الاختبارات وعدم استكمال المشوار معهم.
أحلام محمد صلاح لم تتوقف عند هذه المحطة، فقد قام والده بإلحاقه بفريق نادى اتحاد بسيون، وكان عمره وقتها لم يصل إلى 13 عاما، ولعب معهم حوالى عامين، وبحسب الحكاوى الشهيرة عن رحلته أنه فى ذات يوم خلال تلك الفترة تقابل مع صديقه محمود البهنسى، ثم حضر صديق آخر لهما يدعى شريف العراقى وقال: «الكابتن رضا الملاح الذى يكتشف المواهب الصغيرة من أجل عرضها على أندية كبيرة، سيأتى إلى قريتنا لمتابعته»، وكان العراقى أكبر من صلاح بثلاث سنوات وكان موهوباً جداً، وبالفعل حضر صلاح فى هذا اليوم وشارك بتقسيمة مع مجموعة أطفال آخرين، وعقب نهاية التقسيمة اتجه إليه الكابتن رضا الملاح وأكد إعجابه الشديد بمستواه الفنى، وبعدها اختار 4 لاعبين لضمهم إلى نادى طنطا، وكان من ضمنهم صلاح، وبالفعل تدرب فترة مع طنطا الذى طلب توقيع عقود معه، إلا أن الملاح طلب من والده الانتظار ونصحه بعدم الاستعجال فى توقيع أية عقود.
لم يفت وقتًا كبيرًا، حتى تواصل الكابتن رضا الملاح مع والد محمد صلاح وتحدث معه من أجل الانضمام إلى نادى عثماثون، وهو أحد فروع نادى المقاولون العرب بطنطا، وأكد له أنه سيكون فرصة جيدة لإثبات ذاته، ومن ثم الانتقال إلى الفرع الرئيسى بالقاهرة، وبالفعل استمع الأب إلى النصيحة، ووقع على أول استمارة، وكان يتقاضى بموجبها راتباً قدره 20 جنيهاً شهرياً.
محمد صلاح ذاع صيته مع فريق عثماثون وكان عمره 14 عامًا، ليضعه بعدها مسؤولو نادى المقاولون العرب فى القاهرة ضمن الحسابات من أجل ضمه إلى صفوف الناشئين، وذلك بتوصية من مصطفى قرنى المدير الفنى لعثماثون وقتها الذى كان يؤمن بشدة بموهبته ويرى أن مكانه الانتقال إلى أحد أندية القمة سواء الأهلى أو الزمالك سيكون مسألة وقت، خصوصًا مع تألق اللاعب اللافت معه حتى أطلق عليها زملائه وكل متابعيه لقب «مارادونا الغربية».
وفى إحدى المرات، كان يتواجد على أبو جريشة نجم الإسماعيلى السابق، وريعو نجم الاتحاد السكندرى السابق والذى كان يتولى منصب مدير قطاع الناشئين بالمقاولون وقتها فى مدرجات استاد حلوان لمشاهدة مباراة مقاولين طنطا «عثماثون» وحلوان، وأعجبا بمهارات صلاح وذهبا إليه عقب انتهاء المباراة وأخذوا بياناته كاملة من مدربه مصطفى قرنى الذى أكد أنه يجب انتقاله للقاهرة لإظهار موهبته أكثر وأكثر، ثم فوجئ صلاح فى اليوم التالى بأن نادى المقاولون العرب يعلن ضمه لقطاع الناشئين بعد أن قضى 6 أشهر فقط مع عثماثون، وينتقل بعدها لفرع النادى الأم بالقاهرة.
محمد صلاح يقف عند محطة القطار، ينتظر يوميًا الانتقال بأحلامه من نجريج إلى أحضان قاهرة المعز، وسط صعوبات شديدة بسبب مشقة السفر «رايح - جاى»، فكان لزامًا عليه الذهاب للقاهرة والعودة منها إلى قريته 5 أيام على الأقل فى الأسبوع بعد الانتقال إلى صفوف المقاولون فى القاهرة، من أجل التدريب مع الناشئين، ومعاناته الكبرى كانت بسبب أن السفر يستغرق أكثر من 8 ساعات باليوم الواحد، وهو ما أثر بطبيعة الحال على دراسته رغم أنه كنت متفوقا، وساعده فى ذلك والده كثيراً، ففى كثير من الأحيان كان ينتظره فى منتصف الليل على الطريق الرئيسى ويمشوا سوياً قرابة ساعة كاملة للوصول إلى المنزل لعدم وجود وسائل مواصلات.
وقال صلاح عن تلك الفترة خلال حواراته السابقة قائلا: «أنا فى معظم الأحيان كنت أصلى الفجر وأسافر إلى القاهرة للعب بعض المباريات، والأمر استدعى إلى الحديث مع إدارة النادى فى هذا الشأن، وبالفعل منحونى ورقة سلمتها لإدارة المدرسة من أجل السماح لى بالخروج مبكراً واللحاق بالتدريبات».
محمد صلاح كان يترك المدرسة كثيرًا بسبب لعب الكرة، وحينما كان يذهب لصلاة الفجر وعقب الانتهاء منها يجرى حول القرية للحفاظ على لياقته البدنية، فكان صديقه محمود السقا يستغرب مما يفعله وقتها، ويتحدث معه عن أسباب ذلك، فكان رده أنه يرغب فى اكتساب مهارة السرعة حتى تساعده فى تحقيق أحلامه مع الكرة.
حينما يسترجع محمد صلاح طفولته، لا يكذب ولا يتجمل، كذلك لا يسرد بشكل يبدو أقرب إلى الأسطورة، لأنه دائماً يتخلى عن رداء «النجم العالمى» ويفضل ارتداء ثوب ابن القرية الصغيرة الذى اختبر الحياة وأحب ضعفها قبل قوَّتها، تفتحت عيناه ليجد نفسه وسط أسرة متوسطة يقودها أب وأم عنوانهما الحب والحنان فقط.
وكشف محمد صلاح خلال أحاديثه الإعلامية السابقة عن فترة انتقاله إلى المقاولون العرب قائلاً: أصعب شيئًا كنت أعانى منه خلال تلك الفترة، هو قلق والدتى عليا، لدرجة أنها طالبت والدى بضرورة خلع فكرة لعب الكرة من رأسى والتركيز فى الدراسة فقط، وزادت هذه الفكرة عند والدتى، لأنه فى ذات يوم حدثت حادثة كبيرة على الطريق وأنا عائد من القاهرة ليلاً، وحينما علمت بالحادثة اتصلوا بى للاطمئنان، ولكننى لم أرد على الهاتف بسبب دخولى فى نوم عميق أثناء ركوبى الميكروباص، فتسرب القلق إلى قلب والدتى، وبعد أن استيقظت من النوم وجدت الطريق مغلق بسبب الحادث وسقوط ضحايا، فاتصلت بوالدتى وجدتها شبه منهارة من شدة القلق.
وأكمل صلاح حديثه قائلا: «بعد العودة إلى المنزل دار حديث ساخن فى حضور مع والدى وسط إصرار من والدتى على ترك الكرة والتركيز فى الدراسة، وبعدها لجأت إلى خالى الذى كان يدعمنى هو الآخر بشدة لدرجة أنه يتولى مهمة توصيلى إلى نادى بسيون حينما كنت ألعب بين صفوفه، وبالفعل نجح ومعه والدى فى إقناع والدتى باستكمال مشوارى مع عالم الساحرة المستديرة».
انضمام محمد صلاح لصفوف الناشئين بالمقاولون العرب فى القاهرة كان نقطة فارقة فى مشوراه الكروى، خصوصًا بعد أن تم تصعيده إلى الفريق الأول فى عهد محمد رضوان، المدير الفنى لذئاب الجبل وقتها.. وأوضح صلاح قائلا: قمت بتوقيع أول عقد لى مع المقاولون العرب وعمرى 14 عاماً تقريبًا أيقنت وقتها أننى على الطريق الحقيقى لبداية مشوارى الاحترافى، وكنت أتقاضى راتباً 120 جنيها وكانت لا تكفى ثمن المواصلات من القاهرة للغربية وكان والدى يساعدنى مادياً لاستكمال المصروفات، ووقتها تحدثت مع صديقى محمود البهنسى لأخذ رأيه فقال لى مقولته الشهيرة الدائمة معى:» اصبر وانتظر مازال أمامك الكثير، ويوماً ما ستصل لأفضل شىء ممكن»، وهذا كان نابعاً من شدة إيمانه بموهبتى.
سعيد الشيشينى نجم المقاولون السابق كان أحد أهم المدربين الذين وضعوا بصمة كبيرة مع ابن نجريج فى ناشئى ذئاب الجبل، وفى حديث خاص مع قال لى: «حينما كنت أدرب صلاح كان عمره وقتها لم يتخط 16 عاماً، وكان يلعب كظهير أيسر لكنى قمت بتغيير مركزه لجناح أيمن فيما بعد».
وكشف الشيشينى أسباب تغيير مركز محمد صلاح قائلاً: «كنا نواجه فريق الناشئين بنادى إنبى وفزنا وقتها برباعية نظيفة لم ينجح صلاح كظهير أيسر فى إحراز أى هدف، بل أهدر 3 أهداف محققين، وعقب المباراة كانت علامات الفرح تكسو وجوه جميع اللاعبين إلا صلاح لأقرر وقتها تغيير مركزه داخل المستطيل الأخضر من ظهير أيسر إلى جناح أيمن خاصة وأن الجبهة اليُسرى كانت تضم حينذاك 4 لاعبين أبرزهم على فتحى».. وللحديث بقية