"تحديات ذات طبيعة مختلفة".. هكذا يمكننا أن نطلق على الأزمات الدولية التي يشهدها العالم في المرحلة الراهنة، حيث لم تعد الصراعات الدولية التقليدية هي السمة الرئيسية للوضع العالمى الحالي، وانما باتت هناك العديد من المتغيرات التي أصبح من شأنها اضافة المزيد من التعقيدات التى يعيشها العالم، في ضوء معطيات أهمها تغير النطاق الزمنى والجغرافي للأزمة، ناهيك عن الاختلاف الكبير في طبيعة المعارك التي تخوضها الدول جراء تنوع الخصوم أو اختلاف طبيعتهم، أو التغيير الكبير في أساليب الحروب، والتي ابتعدت في جزء كبير منها عن المواجهات العسكرية المباشرة، لتتحول إلى ما يسمى بالحرب بالوكالة.
فلو نظرنا إلى "الربيع العربي"، نجد أنه يقدم نموذجا مكتمل الأركان لأحد أهم أوجه التحديات الجديدة التي تواجه العالم، عبر إثارة الفوضى داخل الدول، تمهيدا لتفتيتها وتقسيمها، وهو الأسلوب الذى حمل العديد من الإرهاصات التي سبقت اندلاع الانتفاضات العربية المتزامنة قبل عقد من الزمن، من خلال توظيف الميليشيات وتسليحها هنا أو هناك بين دول المنطقة، لتمثل تلك الميليشيات انذاك، حالة سياسية، تتجاوز الاحزاب التقليدية بقوتها العسكرية، مما يضفي لها القوة اللازمة لفرض كلمتها على الأرض في مواجهة خصومها السياسيين.
ربما تجاوز الأمر في السنوات الاخيرة الطبيعة المسلحة للصراع، عبر الحروب الالكترونية، وظهور مفاهيم الامن السيبراني، وتطور الذكاء الاصطناعي، ليضفي مفاهيم جديدة للصراعات الدولية، ليصبح التسلح بها ليس مجرد رفاهية، وإنما بمثابة ضرورة ملحة، بالاضافة الى ما يمكننا تسميته "الحرب ضد المجهول"، والتى فرضتها أزمات كورونا والتغير المناخي، لتقدم معطيات جديدة للأزمات الدولية الراهنة.
وهنا يبدو العالم في حاجة إلى أساليب جديدة، للتعاون تقوم في الأساس على تعظيم الدور الذى تقوم به المنظمات الدولية، خاصة الاقليمية والمتخصصة منها، تحت مظلة الأمم المتحدة، والتي بات الاعتماد عليها وحدها، لا يحقق النتائج المرجوة، في ظل الاتساع الكبير في النطاق الزمنى والجغرافي للأزمات الجديدة، بالاضافة إلى تغير طبيعتها التى تجاوزت الصراعات المسلحة التقليدية، وبالتالي يتعاظم دور التكتلات الاقليمية، وعلى رأسها جامعة الدول العربية، باعتبارها الاكثر دراية بطبيعة مناطقها وظروفهم، وكذلك المتخصصة، على غرار منظمة الصحة العالمية، والتي تعد الاكثر قدرة على مواجهة الازمات المتعلقة بنطاق عملها.
فإذا نظرنا الى الجامعة العربية، كنموذج للمنظمات الاقليمية الهامة، بل وتعد المنظمة "الأم"، في منطقتها، نجد أن ثمة تحركات كبيرة، من شأنها لم الشمل، على المستوى العربي، ليس فقط من جانب تحقيق التوافق في المواقف العربية، وإنما أيضا على مستوى المنظمات الأخرى، وهو ما يبدو في مذكرة التفاهم التى وقعها "بيت العرب" مع مجلس التعاون الخليجي، ليكون بداية تعاون مثمر في مواجهة التحديات الجديدة في منطقتهما، ناهيك عن الحرص الشديد للتعاون مع الامم المتحدة، في العديد من القضايا والملفات، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، والتى دعا الأمين العام أحمد أبو الغيط إلى رعايتها من قبل مجلس الأمن الدولي.
لعل الواقع الجديد بات يفرض دورا أكبر لمثل هذه المنظمات، في المجتمع الدولي، لتتواكب مع التغييرات الكبيرة، لتعمل تحت راية الأمم المتحدة، وتكون بمثابة داعم لها، في ظل المتغيرات الكبيرة على الساحتين الدولية والاقليمية، ربما ساهمت في تقليص نفوذ المنظمة الدولية الاكبر في العالم، وهو ما بدا في العديد من الإرهاصات الدولية السابقة، منها التهديد الأمريكى بالانسحاب منها في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، بل وسبق ذلك بسنوات، استبدال شرعيتها بتدشين تحالفات، تحت قيادة واشنطن، حتى يمكنها القيام بما يحلو لها متجاوزة "الشرعية الأممية"، على غرار الغزو الأمريكي للعراق في ٢٠٠٣، والذى لم يحظى بمباركة مجلس الأمن، لتشكل امريكا تحالفا شكليا مع دول أوروبية لتنفيذ مخططها في بغداد.