لماذا كانت تمتلك ثورة 23 يوليو 1952 وعيا قوميا مميزا وحضورا طاغيا لفكرة القيادة والشعب المتوحدان في شكل واحد، وهدف واحد، وذلك الوعى والحضور مميزا دون غيره من مراحل التاريخ المصرى، فلم نرى أو نقرأ في عصر جمال عبد الناصر مثلا عن محاولات على مستوى الدولة تستهدف فك كتلة المصريين أو شق صفهم، بل أن اللحظة الأعظم التي كان يمكن فيها فك و شق الصف المصرى، كانت هي اللحظة الأعظم في التضافر والترابط، وأقصد هنا قرار تنحى الرئيس جمال عبد الناصر عقب نكسة يونيو 1967، والتي خرج فيها المصريون يرفضون التنحى رغم مرارة الهزيمة، ووقفوا في الشوارع بالملايين وعلى فطرتهم يقولون للرئيس جمال عبد الناصر كمل طريقك واسترجع الأرض.
وأظن أن فكرة الوعى القومى المتوهج في فترة الخمسينات والستينات ترجع في جوهرها الرئيسى لنقطتين رئيسيتين، أولهما وأهمهما هو وضوح شكل العدو الذى نواجهه والذى جعل المصريون يلتفون حول الجيش والقيادة السياسية متمثلة في مجلس قيادة الثورة، فظل ذلك العدو هو الملكية في أول الثورة ثم إسرائيل والعدوان الثلاثى وبعد ذلك كرامة المصريين وزعامتهم للعالم، و ذلك كان تحديا كبيرا للغاية، ثم النقطة الثانية هي طبيعة قيادة الرئيس جمال عبد الناصر للمرحلة، والذي اعتمد فيها على قوة التعبير الذى يرضى المصريين، بمعنى أنه كان يردد لغة في خطاباته ولقاءاته تعبر عما يبحث عنه المصريون حتى لو اختلف ذلك مع الإمكانيات والوقائع، ورغم مافى الطريقة من ملاحظات إلا أنها حافظت على سيرة عبد الناصر عقود، وتلك الطريقة كانت ابن المرحلة التي يعيشها بتشابكاتها، وهى طريقة أيضا تغيرت وتبدلت، فالرجل القوى الذى يواجه الجميع، تنحى في عدة أيام عن الحكم، وبين التناقضات في الشكلين، إلا أن جوهرهما هو تطويع الخطاب لما تستدعيه مجريات الظروف.
ثم أن فكرة الوعى القومى الذى كان في أوج قوته خلال تلك الفترة من تاريخ المصريين، فإن جوهر الوعى يعود لطبيعة الحياة السياسية العامة في مصر، وهى الطبيعة التي اعتمدت على التنوع والاختلاف، وهو الاختلاف الذى صنع سياسيين ومثقفين وكتاب وصحفيين على مستوى يرضى أيضا المصريين، بل كان وزراء الحكومة نفسها نجوم ومنافسين للشخصيات العامة، ومن هنا تشكل وعيا قوميا مؤمنا ومرضيا للمصريين وقيادتهم، ورغم أن ذلك الوعى تدهور بتدهور السياسة و الحياة العامة عموما، إلا أن هناك دائما طاقة نور وأمل لعودته طالما تم إشباع الحياة السياسية والثقافية بدعم مفهوم الاختلاف والتنوع.
ولأن دعم الوعى القومى هو المورد الأساسى لدعم الأمن القومى المصرى عموما، خصوصا أن المصريين بطبيعتهم يعشقون لغة الخطاب والاختلاف والتنوع ويبحثون دائما عن الشيء الذى يعزز شخصيتهم وما يفكرون فيه، فإن واجب خلق مفهوم جديد للوعى القومى عبر أدوات واضحة ومستمرة هو الأصل في أي تحرك قبل أي شيء آخر.