في الوقت الذى تسعى فيه الدولة المصرية نحو بناء اقتصاد قوى من شأنه تحقيق حياة أفضل لمواطنيها، تخوض معارك أخرى متزامنة معها، وعلى رأسها معركة "بناء الوعى"، وهو ما يتجلى بوضوح في العديد من الأبعاد، عبر منهج يقوم على المصارحة لتوضيح التحديات التي تواجهنا، والفرص التي يمكن استغلالها، وذلك على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والمجتمعية، ناهيك عن الجانب الدينى، والذى كان أولوية قصوى للإدارة المصرية، منذ ثورة الـ30 من يونيو، وهو ما تجلى في مبادرة "تجديد الخطاب الدينى"، خاصة وأن غياب الوعى في هذا الإطار يختلط بالعديد من الأمور الأخرى التي ترتبط بأبعاد حياتية، كالسياسة والاقتصاد والعلاقات بين البشر.
فالدين يرتبط ارتباطا وثيقا بكافة المناحى الأخرى، كالعمل والعلاقات بين البشر، بالإضافة إلى كونه أحد أوجه "الهوية"، وبالتالي يلعب دورا كبيرا في توجيه بوصلة العلاقات الدولية، وهو ما يبدو في وصف دولنا العربية وغيرها من الدول ذات الأغلبية المسلمة بـ"الإسلامية"، وهو الأمر الذى يمتد كذلك لدول الغرب، والذى يعتز القطاع الأكبر من دوله بـ"الإرث" المسيحى، وهو ما بدا في العديد من المواقف الدولية، والتي شهدت اعتزازا بالهوية الدينية من قبل القوى الغربية، والتي أشارت دساتير بعضها إليها، ربما أبرزها إطلاق وصف "المقدسة" على الحروب التي أعلنتها واشنطن على أفغانستان والعراق في أعقاب أحداث 11 سبتمبر، في إطار ما سمى بـ"الحرب على الإرهاب".
فلو نظرنا إلى المعركة التي خاضتها الولايات المتحدة، نجد أنها، في الحقيقة، لم تكن أكثر من مجرد حرب مصالح، سعت من خلالها واشنطن، للبدء في مخططها لإعادة رسم منطقة الشرق الأوسط، بينما كانت ذريعتها السلوك المتطرف، لبعض المسلمين، والذى نجحت إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش في توظيفه، لتصبح حربا "مسيحية" ضد الإسلام، بينما كانت وسيلته لتحقيق ذلك هو "تعميم" خطاب دعاة التطرف والإرهاب، ليصبح ملتصقا بالدين، متجاهلا في الوقت نفسه، سماحة الإسلام، ودعواته للتعايش بين كافة الفئات، بينما أعطى الأولوية للعمل والبناء، بعيدا عن الدمار والخراب الذى دائما ما تخلفه الحروب.
وهنا تكمن أهمية المفاهيم التي أطلقتها الدولة المصرية منذ 30 يونيو، والتي قامت في الأساس على بناء وعى المواطنين، عبر تجديد الخطاب الدينى، وهي المفاهيم التي كان ينبغي التركيز عليها قبل ذلك بأكثر من عقد، تزامنا مع الحرب الأمريكية على الإرهاب، حيث اكتفت دولنا حينها بشجب الخطاب الامريكى، والذى يحمل في طياته إرهابا، بينما تجاهلنا الحاجة للإصلاح لدينا، عبر محاربة أفكار تلك الفئات الضالة التي تستبيح دماء البشر في كل زمان ومكان.
تجربة "الربيع العربى" ربما كانت ثمرة أخرى للتقصير، في تصحيح الخطاب، حيث كانت فرصة لجماعات الإرهاب للسعى نحو القفز إلى السلطة، عبر خطاب لا يعكس بأى حال من الأحوال روح السماحة والمحبة والتسامح، والتي تطغى على الأديان السماوية بأسرها، وفى القلب منها الدين الإسلامي، بينما كانت وسيلتهم هى تأجيج الفتن، وإثارة الانقسام، حتى يمكنهم الاحتفاظ بمقاعدهم في السلطة، لأطول وقت ممكن، وهو الأمر الذى كان سيؤدى إلى كارثة حقيقية، لولا ثورة المصريين التي كانت أول حلقات الإطاحة بهم في العديد من الدول العربية الأخرى، وإنقاذ المنطقة بأسرها من براثن حكم الإرهاب.
ولعل النجاح المصرى الكبير في تحقيق طفرة ملموسة، في مجابهة أفكار المتطرفين، كان ملهما إلى حد كبير، لقطاع كبير من الدول الأخرى، والتي سعت إلى تبنى الرؤى المصرية، لتحقيق قدر كبير من التوازن لديها، وهو ما يبدو بوضوح في التجربة الفرنسية، والتي سعت إلى منع استيراد الأئمة من الخارج، تزامنا مع مجلس للأئمة المسلمين، لضمان خطاب يتوافق مع مبادئ الجمهورية الفرنسية، والتي لا تتعارض مع مبادئ الدين، بالإضافة إلى الاحتفاظ بالتماسك المجتمعى والتعايش بين كافة أطرافه.