في الوقت الذى اعتبر فيه قطاع كبير من البشر، حول العالم، أن الوباء ليس أكثر من مجرد مرحلة استثنائية، إلا أن الواقع ربما لم يكن كذلك، حيث تجاوزت الجائحة حدود الجغرافيا والزمن، ليصبح بمثابة خطر حقيقى على كل الدول في كافة مناطق العالم، دون تفرقة بين مختلف التصنيفات التي دأبت القوى الكبرى على تمييز نفسها بها، باعتبارها مركز العالم المتقدم، بينما وضعت الدول الأخرى في درجات أدنى، مما يسمح بالاستيلاء على خيراتها، والتدخل في شؤونها وإعادة رسم خريطتها، طبقا لما تقتضيه مصالحها، في منهج اتسم بقدر كبير من الأنانية، وهو ما ساهم في تأجيج الصراعات في العديد من الأقاليم، وفى القلب منها منطقة الشرق الأوسط.
وهكذا كان الوباء بمثابة القوى الأكبر التي فرضت كلمتها على الجميع، لتضع كافة الدول، كبرت أو صغرت، على قدم المساواة، بينما كانت الإجراءات الاحترازية مجرد مرحلة مؤقتة لاحتواء الخطر الناجم عن تفشى الجائحة، والاستمرار في تلك الإجراءات قد يسفر إلى تداعيات اقتصادية كارثية، انحنت أمامها أعتى الدول، وهو ما بدا في العجز الكبير في مواجهة الأعداد الكبيرة تارة، والخسائر الضخمة التي ضربت المؤسسات الكبيرة في العالم تارة أخرى، وهو ما دفع إلى صيغة تحمل قدرا من المرونة في التعامل مع الأزمة، التي لم تعد تقتصر على الجانب الصحى، وإنما باتت متعددة الأوجه، تقوم في الأساس على فكرة "التعايش"، عبر الحصول على اللقاحات، التي ليس من شأنها الحماية الكاملة من الإصابة، وإنما على الأقل تقدم تحصينا ضد تطور الحالة، وتداعياتها التي قد تؤدى إلى الوفاة.
ولعل منهج "التعايش" الذى فرضه الفيروس، يبدو ملهما في التعامل بين مختلف دول العالم في الكثير من الأزمات الدولى الأخرى، عبر الوصول إلى صيغة مناسبة في التعامل مع الخلافات، خاصة بين الشركاء الإقليميين، بينما يصبح تعظيم المصالح ومجابهة التحديات المشتركة، هي بمثابة "اللقاح"، الذى لا يمكنه الوصول بالقضايا الخلافية إلى درجة "الصفر" وإنما يمكنه منع تطورها لتصل إلى درجة الصراع، والتي تؤدى في نهاية المطاف إلى الخراب والدمار وشلالات الدماء، ناهيك عن تداعياتها الاقتصادية التي يصبح فيها مواطنو الدول هم الأكثر تضررا من ورائها.
فلو نظرنا إلى النهج المصرى، كنموذج مهم في تطبيق منهج "التعايش" الدولى، نجد أن "الجمهورية الجديدة" تبنت هذا النهج منذ ما قبل اندلاع الوباء، عبر التعامل المرن مع ضغوط كبيرة، مارستها العديد من الأطراف الدولية، في أعقاب ثورة الـ30 من يونيو، حيث تبنت سياسة معتدلة، قامت على الحفاظ على المصالح المشتركة مع القوى المخالفة لها، بينما توسعت في خلق تحالفات جديدة، من شأنها إضفاء مزيد من النفوذ والتأثير في محيطاتها الإقليمية والدولية، وهو الأمر الذى جنت الدبلوماسية المصرية ثماره بعدها بسنوات قليلة، حيث تراجعت العديد من الدول عن مواقفها السابقة، على الأقل ضمنيا، بينما استلهمت دولا أخرى منهجها في التعامل مع التحديات، في اعتراف صريح لصدق رؤية المصريين التي أطلقوها في الميادين إبان ثورتهم المجيدة، بينما دعمتها قيادتهم.
منهج "التعايش" مع الأزمات، ربما شهد تعميما إقليميا في منطقة الشرق الأوسط، هو ما بدا بوضوح في محاولات واضحة للحوار حول التحديات المشتركة بين القوى المتصارعة في المنطقة، بدأ من العاصمة العراقية بغداد، عندما شاركت الدول العربية، تحت مظلة جامعة الدول العربية، على مائدة الحوار، مع قوى إقليمية أخرى، للتباحث حول مستقبل العراق، خاصة مع زيادة المخاوف إثر الانسحاب الأمريكي واحتمالات عودة تنظيم "داعش" الإرهابى إلى الواجهة من جديد، في بادرة، يمكن البناء عليها، في المستقبل القريب، لتعظيم المصالح المشتركة في المرحلة المقبلة، مما يساهم بصورة كبيرة في تقويض أي فرصة من شأنها أن تتفاقم الخلافات أو الصراعات الإقليمية، إلى حروب، قد تأكل الأخضر واليابس.
ويعد منهج "التعايش" مع الأزمة، سواء في صورتها الطبيعية أو الصحية وحتى السياسية، مناسبا إلى حد كبير إلى الطبيعة الجديدة للأزمات الدولية، والتي باتت غير محدودة بمناطق معينة، أو فترات محددة، وهو ما يدفع نحو التعايش معها، تزامنا مع العمل الجاد على عدم تفاقمها، عبر "لقاحات" ربما لا تمنع وجودها ولكن تبقى مؤثرة في الحد من تداعياتها.