لأسباب نفسية عاشت المغنية داليدا حياة جامحة متنقلة من رجل إلى عشيق تحت الأضواء وفلاشات المصورين، دون أن تحُس ولو للحظة واحدة وسط شهرتها الواسعة وجماهيرها العريضة، إنها قد تخطت معاناتها ووحدتها.
كانت تغنى طول الوقت من أرشيف عذابها الشخصي المليء بالتعاسة والخيبات، فكما تسبب هجرانها لزواج سابق لها، في انتحاره.. أطلق نجاحها الرصاص على حبيب لها كان ينافسها في مجال الغناء، أودى بحياته هو الآخر عندما تأكد من أن موهبته، لا شيء أمام موهبتها.
لذا ستفهم تمامًا وأنت تشاهدها وتسمعها تغنى فى الفيلم الفرنسى "داليدا" الصادر 2016 موثقًا سيرتها ومسيرتها، كل كلمة من أغنية "أنا مريضة".. ستفهم من أى مكان مظلم فى أعماقها خرجت كلماتها: أنا متسخة من دونك/ أنا قبيحة من دونك/ أنا مثل يتيم فى دار أيتام/ لم أعد أرغب فى عيش حياتي/ لقد حرمتنى من كل أغانيّ / لقد أفرغتنى من كل كلماتي/ حبك سيقتلنى إن استمر/ سأموت وحيدة مع نفسى.. ستتأكد وأنت تسمعها من أنها كانت تصرخ بأعلى صوتها الجميل ألمًا ويأسًا ووجعًا بـ"أنا مريضة"، ستتحول أمامك الكلمات إلى صورٍ ومعانٍ أكثر حزنًا بعدما تعرف من أى وجع كانت تنطلق داليدا وتغني.
ستفهم تمامًا أن روحها الفنية الكبيرة، كانت تعيش سجينة داخل تعاسة مريرة.. ستفهم مقاومتها الدائمة لفكرة الانتحار التي كانت تضغط عليها باستمرار.. ستفهم مقولتها: "الأصعب فى معركة الحياة والموت.. اختيار العيش، لأن الموت هو الخيار الأسهل".
ستفهم تمامًا من براعة صُناع الفيلم كيف يمكن أن يتجاور الاكتئاب مع النجاح أو يلازمه أحيانًا.. ستقنعك الإضاءة البارعة بذلك وهي تنقل عينيك بسهولة ويسر -فى دقيقة واحدة- من عالم المسارح اللامعة النابضة بالحياة والأحلام والأماني والانطلاق والحيوية إلى عالم الاكتئاب والوحدة والألم واليأس والتعاسة من خلال الإضاءة الخافتة الزرقاء الحزينة التي تقنعك طوال الوقت بأن كل شيء سائر إلى غروب وزوال خصوصًا عندما تمسح الكاميرا بنعومة على مشاهد أشجار بأغصان عارية من الورق والثمر.
ستفهم في نهاية الفيلم بكثير من المرارة اختيار داليدا للانتحار.. ستفهم أن فعلتها كانت من أجل وضع حد للألم لا للحياة.. ستفهم وتحزن وتدمع عندما تسمع صوتها الشجى كأنما يرثيها بعد انتحارها: كى لا نعيش بمفردنا/ نعيش مع كلب/ نعيش مع ورد / أو مع صليب/ كى لا نعيش بمفردنا/ أحبك وأنتظرك/ لنملك الوهم/ الذى يحتم علينا عدم العيش معًا/ كى لا نعيش بمفردنا/ يحب فتيات فتيات/ وصبية يتزوجون صيبة/ كى لا نعيش بمفردنا/ آخرون يصنعون أطفال/ أطفال وحيدين/ مثل جميع الأطفال/ كى لا نعيش بمفردنا/ نبنى الكنائس/ كى لا نعيش بمفردنا/ يتشبث الوحيدون بالنجوم..