قبل عشرين عاما أو يزيد كتبت مقالا في مجلة (سطور) تحت عنوان (الصعيد اللا سعيد) تحدثت فيه عن الطريق الزراعي الواصل ما بين القاهرة وأسوان، كنت قد ذكرت أنك عندما تترك العاصمة تبدأ في المرور على قرى محافظة الجيزة، ستجد نقاط المرور قد استخدمت (جراكن) بالألوان الأصفر والأحمر والأخضر، مضاءة من الداخل ب(لمبات) ضعيفة، بديلا عن إشارات المرور المتعارف عليها، ومن هنا يمكنك أن تكتشف حال هذه القرى من الداخل.
أنا ابن قرية النخيلة محافظة أسيوط، أدرك جيدا كم احتياج قرانا إلى تطوير الحياة في كافة مناحيها، والتطوير الذي أعنيه، هو تطوير البنيان والإنسان، إدخال الصرف الصحي، ومناقشة الأوضاع الاجتماعية لهذه القرى.
وضع حلول غير تقليدية للبطالة، والحفاظ على هوية هذه القرى (الزراعية) على وجه التحديد، وإعادة الرقعة الزراعية إلى سابق عهدها، بعد أن تم تجريفها، وبناء منازل قبيحة التصميم على هذه الأراضي الخصبة.
فالقرية في مجمل دخلت في معظمها في منافسة مع المدينة، ولكنها - مع الأسف- لم تنجح في أن تكون ذات خصائص تشبه المدن، وان تصبح قربة بمذاق القرى الخاص، كما كان الوضع عليه في السابق.
إن مشروع حياة كريمة الذي انطلق قبل شهور، هو مشروع فاصل في حياة المصريين، بل نقطة تحول كبرى تستلزم تكثيف الجهود، ليس فقط من قبل الدولة التي تتحمل النصيب الأكبر في القيام بمهام هذه المشروعات الضخمة، خاصة فيما يتعلق بالبنية التحتية، لكننا بحاجة أيضا إلى معالجة آثار تركت تجاعيدها على وجوه قرانا، من أمية تعليمية وثقافية، وبطالة، وانجراف خلف التيارات التي تدعي أنها دينية، والدين منها براء، إلى جانب الصحة والتعليم والرياضة والكثير من الموضوعات التي أتطلع إلى الكتابة فيها.
فقرى مصر تستحق الكثير، وليس بخفي عن القارئ القامات الفكرية والأدبية والعلمية والسياسية التي خرجت من ريف مصر، لتؤثر في مسارات متنوعة، وتضع بصمة ناصعة لا بمحوها الزمن.
فطوبى لفقراء قرانا وبسطائها، من ذوي الأحلام التي تتطلع فقط إلى ممارسة تفاصيل حياتها من دون عناء أو تعب.
طوبى لمن استذكر دروسه على أضواء (لمبة الجاز) واخذت أمه حقيبته المدرسية بدلا من أن يشتريها، وذهب بعد انتهاء العمل إلى الحقل ليساعد أبيه في أعماله الزراعية، وشرب من ماء ليس نقيا بالمواصفات المتعارف عليها، واستدعى عربة التخلص من الفضلات، لأنه لا يوجد صرف صحي لديه.
وطوبى أيضا لمن شعر بكل هذه المشاعر وغيرها الكثير، وفكر وخطط ووجه كل أجهزة الدولة لتنفيذ هذه المبادرة الجبارة.
أما عنوان المبادرة (حياة كريمة) فهو النبل بعينه، والتعفف الذي نبتغيه، والأمل الذي يحدو الجميع.
عاشت الجمهورية الجديدة، لتحقق طموحات شعبها وأحلامهم.