ارتبطت المنظمات الدولية، منذ بزوغ نجمها، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، عندما تأسست "عصبة الأمم"، بالقضايا السياسية والصراعات الدولية، على اعتبار أن الهدف الرئيسى وراء تأسيسها هو حفظ السلم والأمن الدوليين، خاصة في ظل ارتباط نظرية النفوذ بالقوة العسكرية، والهيمنة المسلحة على الأراضى، في حقبة الاستعمار، وهو ما بدا في صراع الامبراطوريات الأوروبية القديمة، بينما استمر الوضع، مع ظهور الأمم المتحدة، والتي امتد دورها للتدخل، ليس فقط في الصراعات الدولية، وإنما أيضا الأهلية، في إطار تهديدات تبدو تقليدية، في عالم السياسة الدولية، والتي تقوم في معظم الأحيان على أساس صراعى، على اعتبار أن البعد المصلحى هو الحاكم فيما يتعلق بالعلاقات الدولية.
إلا أن المرحلة الراهنة، ربما تشهد اختلافا جذريا، يتزامن فيها بزوغ قوى دولية طامحة لاعتلاء عرش النظام العالمى، ومزاحمة الهيمنة الأمريكية المطلقة، مع اختلاف طبيعة الأزمات الدولية، والتي أصبحت أوسع نطاقا، سواء من حيث البعد الزمنى أو الجغرافى، ناهيك عن اختلاف طبيعتها، حيث لم تعد التهديدات التي تواجه السلم والأمن الدوليين، مجرد تهديدات سياسية أو صراعات مسلحة، وإنما باتت "صراع ضد الطبيعة"، وهو ما يتجلى في أزمة اندلاع وباء كورونا، والذى ترك جروحا عميقة في الاقتصاد العالمى، لم يقتصر على الدول الفقيرة وإنما امتد إلى دول العالم الأول، والتي تمثل ركيزة اقتصادية في العالم.
ولعل أزمات الطبيعة ليست وليدة اللحظة، فالحديث مثلا عن التغيرات المناخية انطلق منذ أكثر من عقد من الزمان، بينما لم تحظى بالاهتمام الدولى الكافى، حيث انصب تركيز الدول على وضع المزيد من الالتزامات حول تقليص الانبعاثات الكربونية، على غيرها وخاصة منافسيها، لتقليل التزاماتها في المقابل، في إطار الحرص على الحفاظ على وتيرة التنمية الاقتصادية، وهو ما ساهم في حالة من التجاهل الدولى لـ"الصراع" الوليد مع الطبيعة، إلى صراع دبلوماسي تقليدى، بين الدول أعضاء المجتمع الدولى، في حين لم تحرك المنظمات الدولية ساكنا في الصراع الجديد، لتكتفى بالدوران في فلك دورها التقليدي، عبر تحقيق المواءمات التي من شأنها الوصول إلى أكبر قدر من التوازن بين مطالب القوى الدولية الكبرى، بقيادة الولايات المتحدة والغرب الأوروبى، والتي سعت إلى تحميل الدول النامية نفس التزاماتها بشأن تقليل الانبعاثات الكربونية، من جانب وحقوق معسكر الدول النامية، بقيادة الصين، والتي أصرت على حقوقهم في تحقيق التنمية في الوقت الذى ينبغي فيه أن تقوم فيه الدول المتقدمة بدور أكبر للحد من الأزمة.
وهنا تدخلت الآلية الدولية، منذ البداية، لتغيير طبيعة الصراع، من كونه صراعا مع الطبيعة يحتاج إلى أدوات استثنائية، تقوم على التعاون، للتعامل معه، إلى صراع سياسى تقليدى، ربما لفشل المنظمات الدولية، والدول أعضاء المجتمع الدولى، في الخروج عن الطبيعة التقليدية للسياسة، التي طغت على المشهد العالمى، منذ عقود طويلة من الزمن، وهو الأمر الذى تصاعد بصورة كبيرة في السنوات الأخيرة، مع المواقف الأمريكية المناهضة للبيئة، خلال حقبة الرئيس السابق دونالد ترامب، والذى وضع التنمية الاقتصادية أولوية قصوى، وهو ما بدا في انسحابه المثير للجدل من اتفاقية باريس المناخية، مما خلق شقاقا فرعيا، بخلاف الانقسام العالمى القائم في الأصل بين الدول المتقدمة والنامية، ليمتد نطاقه التشرذم الدولى إلى معسكر الدول المتقدمة، والتي رفضت بالطبع الموقف الأمريكي، وهو الأمر الذى سعى إلى إصلاحه الرئيس جو بايدن بمجرد دخوله البيت الأبيض، في يناير الماضى، ليوقع قرارا تنفيذيا بالعودة إلى الاتفاقية في محاولة لمصالحة حلفائه.
ولعل المعضلة الرئيسية التي واجهت المجتمع الدولى، سواء في صورة الدول الكبرى الحاكمة، أو المنظمات، تجسدت في عدم القدرة على الخروج من الإطار التقليدي في التعامل مع الأزمات، أو بمعنى أدق الخروج من عباءة السياسة إلى إطار إنسانى أكبر، بعيدا عن التسييس، ليجد العالم نفسه أمام أزمة متعددة الأبعاد، تقوم على خطورة التهديد القادم من الطبيعة المتمردة على استنزافها المتواصل، من جانب، في حين يبقى الانقسام الكبير بين الدول في التعامل مع هذا التهديد، جانبا أخر، بينما يدور البعد الثالث للأزمة حول ما إذا كانت تلك المنظمات مؤهلة على القيام بدور قوى في الضغط على أعضائها لتقديم المزيد من التنازلات من شأنها المساهمة في تقديم حلول قوية وفعالة لمواجهة التهديدات الجديدة.
تبدو المنظمات الدولية، في القلب منها الأمم المتحدة، في مواجهة اختبار حقيقى في المرحلة المقبلة، حيث تبقى قدرتها على التعامل مع الأزمات الجديدة، والتي تمثل تهديدا صريحا للسلم والأمن الدوليين، بمثابة اختبار مهم، في مرحلة حساسة تمثل مخاضا للنظام الدولى، ربما ينجم عنه ميلاد نظام جديد، تحكمه قوى جديدة في المستقبل.