تشغل المرأة منذ فجر التاريخ، حيزا كبيرا من الأساطير والحكايات الشعبية، وصورتها الحضارات القديمة بعدة صور وأشكال متباينة، فتارة تظهر إلهة للخصوبة والنماء والتضحية، وتارة أخرى شيطانا، وفى أوقات تكون منقذا ورمزا للبطولة، والمتتبع للتاريخ الإنساني يدرك أن نظرة المجتمعات للمرأة على امتداد التاريخ تراوحت في عمومها بين الدونية والسمو.
وبغض النظر عن صورة المرأة النمطية أمام المجتمع، وفى نظر الرجل، فإنها لم تكن بمنأى عن دائرة الأدبيات والفنون المختلفة، وكانت محورا لأعمال سردية كثيرة، وفى الآونة الأخيرة أصبح هناك اتجاه أكبر لتصوير ثورة المرأة التحررية، في سبيل تخلصها من قيود المجتمع وميراثه الطويل.
من هذا المدخل، يمكن النظر إلى عديد من التجارب المسرحية التي اتخذت من ثورة المرأة التحررية وسيلة للوصول إلى غايته، ومنها العرض المسرحي "تراتيل ثورة النساء" المعروض ضمن فعاليات الدورة الثالثة من ملتقى القاهرة الدولي للمسرح الجامعي، من سينوغرافيا وإخراج ميس الزغبي، وإنتاج كلية العلوم التربوية بالجامعة الأردنية.
يسرد العرض قصص ثلاث نساء تجمعهن القيود والأغلال التي تحملها ضمائرهن المشتتة، لتروى كل واحدة منهن قصة قادتها إلى تلك النهاية، وفى مجمله يحمل النص تعاطفا واضحا مع هذه النماذج، ويتطرق إلى مسألة حقوق المرأة وحريتها، إضافة إلى بعض انتقادات عابرة للعدد من المظاهر السلبية في المجتمع، والوقوف كسدٍّ منيع في وجه امتهان حقوق المرأة، وكبح جماحها في الحصول على حقوقها.
العرض منذ اللحظة الأولى يأخذك إلى مضامين دينية وفلسفية، عبر استخدام تشكيلات ضوئية بأشكال الهلال والصليب ورموز أخرى من الحقل الدلالي نفسه، ربما لتعزيز الشعور بأن ما يتبع ذلك حالة عامة تخص المرأة بغض النظر عن بيئتها وإطارها الاجتماعي والمعرفي، وكتمهيد للدراما التي تأخذك سريعا إلى ثلاث نسوة لديهن قصص معاناة مختلفة، عبر سلسلة من المواقف والصراعات المعتمدة على أبعاد مختلفة لا تخلو من مساحة حية لتفاعل المتلقين.
بدأت دراما التجربة بتصوير السجينات الثلاث، الأولى بائعة هوى، والثانية طبيبة بشرية، والثالثة مُدرّسة أطفال، تتنوع المرجعيات والمظاهر لكن سبب السجن واحد، جريمة قتل أو اعتداء على رجل، بعدما حاول سلب إرادتها أو مارس سلطته عليها، تجتمع السجينات داخل أقفاص حديدية تُلخص حالة السجن والحصار المجتمعي وقيود الأعراف والتقاليد والعادات.
يقوم على الحراسة رجل، في مفارقة رمزية بالغة الوضوح، وربما تكون واحدة من الرسائل فجة المباشرة، وفى إطار تلك الرؤية فمن الطبيعي أن يكون متغطرسا وقامعا لهن، وفى المقابل تتحد السجينات لمواجهة الحارس بموقف واحد، في رسالة مباشرة أيضا بأن تكاتف النساء سبيلهن الوحيد لأخذن حقوقهن في ظل هيمنة ذكورية كاملة على المجتمع.
استطاع أبطال العرض تقديم أدوار مركبة عن المرأة والرجل معا، مجسدين حالة الانفصام التي يعانيها الجنسان في مجتمعاتنا العربية، إما لأمور تتصل بالبيئة والنشأة، أو لرواسب اجتماعية وثقافية وأعراف بسطت سلطتها حتى استلبت الجميع، مقدما مساءلة واضحة لسياقات وضعت المرأة منذ الصغر في ظروف قهرية، بينما تتظاهر بأن لها حقوقا مُحصّلة بالفعل، أما في العمق فإنها لا تتوقف عن تعزيز سلطة الذكور وتغذية ماكينة القمع، وحصر النساء في مساحة الجسد ووسيلة المتعة والمفعول به اجتماعيا.
رغم نمطية الأحداث والمواقف، تطرق العرض لعدة قضايا مهمة، لا سيما حقوق المرأة وحريتها، وانتقاد مظاهر سلبية تعانيها الثقافة العربية، كما لم يغض الطرف عن التطرف الديني وحوادث القتل والإرهاب التي عانتها المنطقة، ومنها حادث تفجير كنيسة بالحي الشرقي بالعاصمة الأردنية عمان، راح ضحيته مسلمون ومسيحيون معا، في إشارة إلى أن تواجد الجماعات الإرهابية سبب واضح لهذا الوضع المشوه الذي يكبل المرأة في المجتمعات العربية.
ضمن مزايا العرض، إلى جانب التمثيل الجيد، الانتصار للصورة عبر سينوغرافيا مصوغة بإحكام، وإخراج جيد في إدارة فضاء العرض وما يتصل بها من كتلة وحركة، إلى جانب استعارة تقنيات جمالية ذات طاقة تعبيرية فاعلة فضلا عن أبعادها التاريخية وما تضفيه على رمزية العرض من دلالات تتجاوز خطى الزمان والمكان، مثل تقنية "خيال الظل"، وما أتاحته من تكوينات بصرية بالغة العذوبة والقسوة.
اعتمدت المخرجة في تشكيلها لفضاء العرض على موتيف الجدران الحديدية، تكوينا لحالة السجن ورمزا لحصار السلطة الذكورية، مع اقتصاد وبلاغة في توظيف الإضاءة تعبيريا لتضفي على الحالة الدرامية أبعادا تأثيرية وجمالية تُعزز رسائل الحكاية عبر شحنها عاطفيا، وبالمثل كانت الملابس والاكسسوارات معبرة تماما عن حالة التناقض والفصام التي يعانيها شخوص العرض، عبر "بيجامات" بهيئة مربعات بيضاء وسوداء، في دلالة على ثنائية الخير والشر داخل الإنسان، ورمزية توحى بلعبة الشطرنج وكأننا جميعا مجرد قطع على تلك الرقعة، وهناك أيادٍ تحركنا لنقهر بعضنا، ربما تكون الموروث أو العادات والأعراف أو شعور الأفضلية والغطرسة أو غيرها من البواعث والمثيرات.
ما يميز العرض أيضا هو تأثيره الواضح على المتلقي، ومعايشته لأجواء وقضايا في عمق أزمة المرأة العربية ووضعها الاجتماعي، إلى جانب استناده لحالة من السخرية، وتوظيف المؤثرات من أجل شحن الحالة عاطفيا وتعميق أثرها النفسي.
وفى النهاية قدم "تراتيل ثورة نساء" صورة فنية جذابة، تنبذ التعصب والتطرف الفكري والديني، وتنتصر للإنسانية وقيم العدالة، وتدعو إلى مساحة عاقلة لرؤية الواقع وتجريده من رواسب التاريخ وأدران الأعراف المشوهة، وصولا إلى أطروحة قد تبدو نمطية، ولا تخلو من مباشرة أو رمزيات فجية، لكنها تضعنا في النهاية أمام مرآة بالغة الحدة والوضوح، ليرى كل واحد منا نفسه في هذا السياق، ناقدا ومُنتقَدًا، سعيا إلى إحداث أثر في النفس ربما تطوره الأيام إلى أثر في الحياة.