من الصعب أن تستقيم الحياة الكريمة مع الجهل، والجهل هنا أنواع متعددة، جهل تعلم القراءة والكتابة وهو أول درجة، يليه الوعي الثقافي والإدراك المعرفي، نهاية بالوصول إلى عدم القدرة على التفرقة بين المعلومة التي يراد بها الباطل، ونقيضتها التي يراد بها الحق.
وقرى مصر التي تحولت الآن إلى شعلة من العمل الجاد لتحقيق الحياة الكريمة التي تصبو إليها القيادة السياسية، بحاجة إلى أن تتولى الهيئة العامة لمحو الأمية فتح آفاق تعاون جديدة مع المؤسسات الرسمية والأهلية، لتكون هذه القرى على وجه التحديد، هدفاً للقضاء على الأمية فيها، بحيث يتوازى التطوير العمراني، وإصلاح المرافق العامة، وإدخال غير الموجود منها، مع تأهيل مجتمع هذه القرى لمحو أميتهم، ليكونوا قادرين ومؤهلين للحفاظ على ممتلكاتهم الجديدة التي تسخرها لهم الدولة.
والأمي كما ورد تعريفه في تقرير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، ووفقاً للقانون رقم (8) لسنة 1991، هو:
"كل مواطن يتراوح عمره ما بين الرابعة عشر، والخامسة والثلاثين من غير المقيدين بأية مدرسة ولم يصل تعليمه إلي نهاية الحلقة الابتدائية للتعليم الأساسي".
أما هدف محو الأمية وفقاً لات المصدر:
" يستهدف محو الأمية اكتساب الدارس الأمي للمهارات التعليمية الأساسية التي تمكنه من الاتصال بمصادر المعرفة المتنوعة وتزويدها بالخبرات والمعارف التي تعينه علي رفع مستواه التعليمي والصحي والاجتماعي والمهني مما قد يتيح الفرص
أمامه لمواصلة تعليمه في المراحل التعليمية المختلفة".
وهو ما نؤكد عليه تماماً، حيث يتمكن المواطن من الاتصال بنفسه بمصادر المعرفة، فمكمن الخطورة يأتي من توجيه الأمية لمصدر معرفة معين، يُدَس فيه السم في العسل، فينتج عن ذلك انحراف فكري لدى المواطن الأمي.
وكم تمكنت قوى الظلام من اختطاف بعض أبنائنا اعتماداً على جهلهم، وبث أفكار متطرفة داخل عقولهم الخاوية، ليتحولوا إلى "روبوتات" تتحرك وفقاً لأهواء الظلاميين، وقد شهدت سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، خططاً ممنهجة في قرى مصر، أثرت على شبابها ليس فقط من غير المتعلمين أو المنتظمين في الدراسة، بل تمكنوا من التأثير على أبنائنا المتعلمين، ولكنهم رغم معرفتهم بالقراءة والكتابة، إلا أن الأمية الثقافية التي كانوا يعانون منها، أوقعتهم في شرك الفكر المتطرف وأصبحوا أدوات لهم، ينشرون أفكاراً ومعلومات مصادرها منحرفة الهدف، لكنهم لأنهم لا يتمكنون من التعرف على مصادر أخرى معتدلة الموقف الفكر والديني، أصبحوا مسوخاً مشوهة، شاركت في محاولات التأثير على الفكر الجمعي لأهل القرى، لكن هيهات فمصر عصية على هؤلاء.
الأمر الأخطر في نظري هو التسرب من التعليم، وهو بحاجة إلى تدخل الدولة من خلال قوانين رادعة تجرم هذا التسرب، ومن خلال مساهمة المجتمع المدني في محاولة بحث أسباب عدم إكمال المراحل الدراسية للبعض، حيث تكون الأسباب أحياناً ذات أبعاد مادية، وعدم وجود عائل للأسرة، أو معاناته من البطالة.
وهنا أعود إلى تقرير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، الذي يعرف التسرب من التعليم بأنه:
"الطالب الذي يترك المدرسة قبل نهاية المرحلة، ولم يلتحق بأي مدرسة أخرى، أو التغيب عن المدرسة بدون إذن أو عذر مقبول لمدة طويلة".
فماذا لو تكاتفت على سبيل المثال وزارة الشباب والرياضة ممثلة في مراكز الشباب المنتشرة في القرى، لتكليف أعضاء هذه المراكز من الشباب للبحث عن المتسربين وتقديم العون لهم، ورفع هذه الأبحاث إلى مديرية الشباب والرياضة، لإتاحتها إلى منظمات المجتمع المدني، لمن يستطيع المساعدة وإيجاد الحلول.
نأتي إلى دور الهيئة العامة لمحو الأمية، والتي أعتقد أنها بحاجة إلى إعادة النظر في طرق التعامل مع فصول محو الأمية، فالأمي بحاجة إلى أن يتم الذهاب إليه وإقناعه بالانتظام فصول محو الأمية، وهناك قرار من المجلس الأعلى للجامعات بقيام الطالب أثناء دراسته في مرحلة البكالوريوس، ومرحلة الدراسات العليا بمحو أمية عدد من المواطنين.
وهنا أدعو المجلس الأعلى للجامعات إلى الدعوة إلى تنفيذ هذا القرار فيما يتعلق بالطلبة الذين يقع محل إقامتهم وفقا للرقم القومي في القرى المستهدفة حالياً في مشروع حياة كريمة، بحيث تكون هناك وسائل تحفيزية للطلاب الجامعيين، منها على سبيل المثال الإعفاء من الرسوم الدراسية حال الانتهاء من محو أمية عشرة أفراد مثلاً، وبذلك يكون هناك إسهام حقيقي من طلبة الجامعات من أبناء قرانا الغالية.
يبقى أهمية إعادة النظر في مناهج محو الأمية، ففي القرن الحادي والعشرين، لا يجب أن يكون تعليم الحروف الأبجدية، من خلال "أمل وعمر"، ولكننا نحتاج إلى ربط هذه المناهج بتاريخ مصر وتراثها العريق، وبحضارتها المتفردة، إلى جانب الربط بين هذه المناهج والأمثلة الحية من حولنا الآن، من مشروعات نهضوية في كافة المجالات تجري في مصر، وعلى رأسها مشروع "حياة كريمة".
فماذا لو تم تشكيل لجنة عليا لمحو الأمية في القرى محل تنفيذ المبادرة حالياً، للعمل على محو أمية مواطنيها، تضم الوزارات والهيئات المعنية، والجمعيات الأهلية التي تقع مقارها في هذه القرى أو في المدن المحيطة بها لنحقق خطوة إيجابية جادة تسهم في هذا المشروع القومي.
ويكفي أن أذكر أن تقرير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء يوضح أن التوزيع النسبي للسكان (10 سنوات) فأكثر وفقاً للحالة التعليمية والنوع ومحل الإقامة، في عام 2017، تتمثل مؤشراه فيما يلي:
(نسبة الذكور من الأميين في الريف:25.9%، ونسبة الإناث من الأميات في الريف: 38.8%، بإجمالي: 32.2%).
(بينما يبلغ إجمالي الأميين في الريف من الذكور: 21.1%، وإجمالي الإناث من الأميات في الريف: 38.8%، بإجمالي عام 25.8%)
وعلى سبيل المثال فإن نسبة الذكور الأميين في محافظة قنا وفقاً لعام 2017: 20.9%، بينما الإناث 37.7، بإجمالي 29.1%)
الأمر ليس يسيراً، ومحفوف بالعديد من الصعاب، لكنه ليس مستحيلا، ونحن الآن نعيش عصر تحقيق المستحيل، وتحويله إلى ممكن، بالعزيمة والإصرار والسعي الجاد نحو تحقيق الهدف.