في الوقت الذي يفتتح فيه رئيس مجلس الوزراء قاعة الموسيقى بمبنى دار الأوبرا الجديدة بمدينة الفنون والثقافة بالعاصمة الإدارية ، لنشاهد فنا راقيا يقوده المايسترو العالمي ريكاردو موتي لأوركسترا ڤيينا الفيلهارموني ، وهو حدث غاية في الإهمية – في نفس الوقت نرى اهتماما إعلاميا واسعا يشبه الاهتمام بمباراة كرة القدم بين فريقي الأهلى والزمالك ، على خلاف غريب بين من يطلق عليهم مطربي المهرجانات ، وبين نقابة الموسيقيين ، وقد انقسم الناس إلى فريقين.
لابد أولا أن نعترف أن هناك فجوة كبيرة أصبحت قائمة بين أصحاب الذوق وبين هذا التيار الشاذ، الذي أصبح يسيطر على ذوق كثير من الطبقات الدنيا والهامشية ، بل وفرض نفسه على الأفراح والمناسبات لطبقات أعلى . وهذا ليس بجديد ، ففي كل الأزمان وكل المجتمعات هناك تيار يرتفع بالذوق الفني ويرى الفن رسالة ومتعة ورقي بالحس الإنساني ، وآخر لا يعبأ بكل هذا ولا يضعه في اعتباره ، ببساطة لأنه لا يفهم مثل هذه المثل ولم يتعلمها .
هنا تقع مسئولية مشتركة بين المجتمع الواعي من ناحية وأجهزة الدولة ممثلة في الجهات القائمة على ترقية الذوق والحفاظ عليه من ناحية ثانية ، في مواجهة هذا التيار . وهو ما يستدعي إنتاجا غزيرا وإلحاحا بأصوات حلوه وكلمات تتراوح بين الراقي والمقبول ، وألحانا شجية ، وتشجيعا لكل ما له قيمة ، وفي المقابل محاربة التيار المتدني بمزيد من الإبداع .
لكن الذي رأيناه على مدى الأيام الماضية هو استكمال لما أصبح عليه المجتمع من خلط وتشوه وانحدار بالذوق العام ، والأغرب منه هو هؤلاء المدافعون عن الذوق المنحط مرة أخرى باسم حرية الإبداع ، والإبداع برئ من هؤلاء !
أي إبداع بكلمات ساقطة وألحان بلا معالم وأصوات قبيحة محشرجة تثير الغثيان ، فهل المطلوب أن يعتلى هؤلاء الساحة الفنية في مصر ، ويفسدوا ما تبقى من فن موسيقى ؟
لا أحد يدعو أن يكون الأوركسترا السيمفوني والموسيقى الكلاسيك والأوبرا هو الفن السائد ، وإن كان هذا أمل لا نستطيع حتى أن نحلم به ، أو حتى عودة أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم لأن الزمن لا يعود للوراء ، لكن المطلوب على الأقل هو الحفاظ على هوية الفن المصري ، ولكن فيما يبدو أن البعض لا يدرك مكانة مصر الفنية على مستوى العالم !
لا أستطيع أن أحدد تماما متى بدأ هذا التيار المشوه ولماذا ؟ لكن الذي أعرفه انه ليس منذ زمن بعيد ، وهذا يستدعي سرعة العلاج والمواجهة ، قبل أن يفقد مجتمعنا السيطرة على هذه الموجة العاتية ، التي استطاعت بكل أسف أن تجد من يؤيدها ويدافع عنها ، وهذا مؤشر خطير.
ففي زمن ماض كان الاستماع للفن الراقي هو أحد مظاهر التمدن ، أو حتى اللحاق بالطبقات الأعلى ، لكننا اليوم نرى طبقات من المفترض أنها واعية تتدنى وتنشر هذا المسخ ، ولو استمر هؤلاء فكيف سيكون حالنا بعد عدة سنوات ؟ من المؤكد أن الحل حينها سيكون مستحيلا !