الذين يعايرون الشعب بما لا يطلبه
كانت المناسبة أن أحدهم نشر على صفحته بـ«فيس بوك» صورة لأحد مصابى الثورة، وعلّق على الصورة بأن فلانًا فقد كذا وضحى بكذا من أجل ناس لا تستحق، وكتب أحد معلقيه يؤيد وجهة نظره، وقال: «ده شعب لا يستحق التضحية».. لم تكن هذه المرة الأولى التى نقرأ ونسمع فيها تبكيتًا من شخص أو مجموعة أشخاص خلال الفترات والشهور الماضية، وعبارات من نوعية «أنا مليت وزهقت مافيش حاجة تستاهل».. إلى آخر الموشح المعروف.
بعض من يقولون هذا الكلام فى الحقيقة يصعب التعرف على ما قدموه، وحتى لو كانوا ناضلوا وضحوا فقد فعلوا كل هذا باختيارهم ومسؤوليتهم الشخصية عن أعمالهم وتصرفاتهم، ولم يدعهم الشعب ليساندوه، ولم يعينهم أحد ناطقين رسميين باسم الثورة والشعب والأمة، وهذه حقيقة معروفة فى العالم كله، وكبار المناضلين والزعماء الذين ضحوا وسجنوا وطلع عينيهم لم يظلوا طوال الوقت يعايرون شعوبهم بما فعلوه أو ما لم يفعلوه.
ولو راجعنا مذكرات غاندى ومانديلا ونهرو وجيفارا فلن نجد مثل هذه المعايرة، بل إن مانديلا، وهو أحد أهم المناضلين، كتب منتقدًا هؤلاء الذين يعايرون شعوبهم، ويقفون عند حدود التبكيت والمن والادعاء، فالذى يختار النضال والكفاح، يفعل ذلك من أجل الدفاع عن مبادئ يؤمن بها، ونتائج يريد تحقيقها، فإن نجح يحسب له النجاح، وإن فشل يدفع الثمن، وهو يعرف أنه سوف يدفع الثمن فى كل الأحوال، فالنضال مثل التدخين، مسؤولية كل مناضل، وهناك دراسات وكتابات تحلل نفسية المناضلين، وتبحث عن السبب الذى يجعل البعض مهتمين بالشأن العام، وآخرون لا يهتمون، ومن يهتمون للسياسة فى كل العالم لا تتجاوز نسبتهم %10 فقط من مجمل السكان، لكن عندنا ظاهرة ظهرت بعد يناير ويونيو.. أن يتم تعيين زعماء، وحتى لو قالوا أى كلام، يحوله بعض المصفقين إلى حكم وفلسفات، بينما الواقع أنه مثلما قدم البعض تضحيات، حصل البعض على عائد من أضواء ونجومية ومصالح أو وظائف، وبعضهم تاجر أو زايد أو نافق، وهى طبيعة الحياة.
وعليه فإن بعض السادة المهتمين بالشأن العام، نضالًا أو معارضة أو سلطة أو تسلطًا، فى السياسة بتنوعاتها، يفعلون هذا برضا واختيار وليس بتفويض أو كارنيه، ومن يتظاهر أو يعترض أو يؤيد يفعل هذا باختياره ومسؤوليته، ولا يحق له فى أى وقت أن يخرج ليعاير الشعب بما فعله، وعلى السادة المهمومين أن يخففوا من حالة الادعاء والاكتئاب والتبكيت للشعب والمن عليه بأنهم يقدمون له جميلًا، وإذا شعروا فى أى وقت أن نضالاتهم عبء عليهم أن يتوقفوا عن النضال، ويكفوا عن الفعل ويختاروا مجالًا آخر، وأن يكفوا عن معايرة الشعب بشىء لم يطلبه من أحد، والنضال مسؤولية كل مناضل.