لا أعرف بالضبط لماذا انتابني هذا الإحساس بضرورة مشاهدة فيلم "أرض الخوف"، بينما الجميع مشغول بالتغيرات المناخية الجديدة، لا أفهم الرابط أو الخيط الخفي بين حالة الفيلم والحالة التي تعقب نزول المطر، لكني كلما شاهدت الفيلم أصابني هذا الذهول المنذور للأسئلة الوجودية: من نحن؟ ما الزمان وما المكان؟ وما جدوى وجودنا في الحياة أساسًا؟ كل الأسئلة معلقة ورهن المجاز الذي يطرحه الفيلم حيث يشتبك الخيالي مع الواقعي، وكل الأسئلة تعمل بأقصى طاقتها واستطلاعها حتى يتمكن الفضول من العقل؛ فيما يظل القلب شغوفًا بسؤال آخر: كيف دخلت هذه الحالة؟ .. هذه الحالة هي ما صنعه المخرج داود عبد السيد في "أرض الخوف" (1999)، الفيلم الذي لطالما اعتبرته الأكثر كثافة بين أفلامه؛ بما تضمنه من ترميز ورغبة في الاكتشاف ومحاولة تأملية يفكك من خلالها راهن الدنيا ويعيد صوغ تفاصيلها برؤية ثاقبة، معاندة، ممتعة، تجدد الروح سواء بموضوعها المطروح أو بشخصياته التي تمثل صلب الوجود البشري، وكذا بأسماء هذه الشخصيات وهي إحدى مفاتيح الفيلم وإشاراته للدخول في الحكاية.
إذن، يمكن قراءة الفيلم بأكثر من مستوى، إنه يحتمل ذلك؛ سواء من مستوى قصته التي تبدو مثيرة في إطارها الملحمي أو حتى البوليسي، أو مستوى الإسقاط السياسي كما رأيناه على خلفية الحدث بالإشارة إلى تواريخ معينة (1968) بعد النكسة ثم أوائل الثمانينيات، أو مستوى فلسفي يعبر عن المأزق الوجودي لإنسان تائه وحده في مهب الريح، أو مستوى ديني وميتافيزيقي ينحو تجاه يقين أدم المرسل ورسالته وصراعات الخير والشر، وإن كان النص السردي للفيلم يفرض علينا دلالته منذ اللقطة الأولى، فبالرغم من أنه يحمل رموزًا كثيرة، متباينة، إلا أن الوضوح يعد من مقومات النص الأساسية وبوصلته التي يتصاعد معها.
إنها حيلة أخرى استخدمها داود عبد السيد؛ وهو أيضًا كاتب السيناريو، ملازمة لحيله الدرامية في التعبير عن أفكاره من خلال بناء درامي قوي، يتمحور حول فكرة اليقين التي يسعى وراءها الفيلم منذ البداية، إنه لا يمتلك إجابة حاسمة عن هذا اليقين؛ لكنه عبر توالي مشاهد الفيلم يظل يبحث عنه، يطرح أسئلته المنتقاة على أمل أن يمشي على هدي البصيرة، وعلى هذا الدرب تتجلى الصورة وتتوافق مع الحكاية ثم تتماهى مع دلالتها خطوة.. خطوة.
"أرض الخوف" إذن، عمل متكامل بطرفيه: الصورة والموضوع الذي تدور قصته حول ضابط المباحث يحيي المنقباوي (أحمد زكي) الذي يكلفه رؤسائه بمهمة سرية وهي الاندساس بين تجار المخدرات بعد أن يتم فصله من عمله إثر إدانته في جريمة رشوة مدبرة، ليكون الجاسوس الذي ينقل أخبار عالم المخدرات وزعمائه، فيصبح واحدًا منهم، ولأن المهمة سرية فلا ضمان له سوى شهادة رسمية موثقة بمهمته، يودعها في إحدى الخزائن السرية الخاصة بأحد البنوك، لكن المهمة تستمر ويصبح اسمه الجديد "يحيي أبو دبورة" ، ثم يفقد أبو دبورة اتصاله برؤسائه ويتحول مصيره إلى كابوس، تتوازى فيه التقاطعات المتشتبهة بين الضابط الذي يعجز عن التواصل مع حياته السابقة ويتورط أكثر في حاضره الفاسد، كما خروج آدم من الجنة وصراعه مع الشيطان في الأرض.
يجد يحيي نفسه وحيدًا بعد أن تتم إقالة رؤسائه الذين يعلمون بمهمته، فيصبح وضعه مأساويًا ويزداد سوءً حين يكتشف أن رسائله التي كان يبعثها إلى رؤسائه لا تصل لأحد، فأحاطت به هواجس الشك: هل كان مكلفًا بمهمة فعلًا، أم هو الذي اختلق هذه المهمة؟ هل هي خيال أم حقيقة؟ هل هو على صواب أم خطأ؟ هل هو ضابط شرطة أم تاجر مخدرات؟ أسئلة القلق والشك تنهشه، فيرسل خطابًا جديدًا ويطلب من جهة عمله أن يؤكدوا له أنه ليس واهمًا حتى يقرأ إعلانًا في الصحيفة: "إلى الباحث عن الحقيقة"، ثم يلتقي موسى (عبد الرحمن أبو زهرة) في جامع السلطان حسن، في مشهد يختصر كل الارتباك وكل الاسقاطات الدينية، يبدأ بلقطة يهل فيها موسى في منتصف الكادر مرتبكًا وغير متوزان، فيظهر يحيي، وهو يراقب حركة موسى بعينيه، ثم نرى موسى يصلي، وتضيق اللقطة لتضمهما؛ بينما ينظر موسى إلى يحيي برهبة قبل أن يتدفق الحوار بينهما، إذ ترصد الكاميرا الانفعالات بينهما؛ قبل أن يتطور المشهد ويضرب يحيي موسى ويجره خارج المسجد.
مشهد اختزل الحكاية، برع في الذهاب إلى أقصى التعابير البصرية الصامتة، وقوة الغضب والرغبة في الانعتاق، كما كان المفتاح لخزانة العالم السري لداود عبدالسيد، سينمائي أمضى حياته صانعًا لسينما، خرجت من الحالة شديدة الخصوصية إلى جمهور كبير، وجد فيها أحلامه وخيباته وانكساراته.
تتعدد الإشارات في الفيلم لتعميق الفكرة التي أرادها داود، ومثلما منحتها كاميرا سمير بهزان بعدًا متوافقًا، متكئًا على نمط بصري خاص، فإن موسيقى راجح داود تأت لتعمق هذا البعد الفني، بالخط الصوفي الذي اعتمدته، فأثارت حالة وجدانية خاصة مشحونة بتصاعد الصراع بين الخير والشر، ما يصنع معادلة التوازن في فيلم اكتمل بأداء ممثليه الواعي لموضوع صدامي، كاشف، ومُعلي للشأن الفكري والإنساني والحياتي، ما يجعل قلب المتفرج دائم الشغف بالحكاية، فتعمل ذاكرته بكل جهدها، أما عقله فيأكله الفضول.