كان يعيش بيننا مترجم وأديب ومفكر من أرقى طراز اسمه طلعت الشايب (توفي عام 2017).. كان الشايب امتدادا واضحا للمترجمين العظماء الذين لا يترجمون إلا الكتب التي تضيف إضافة خلاقة للمكتبة المصرية والعربية.. عاش طلعت الشايب يقدم ترجمات لأخطر الكتب التي تصدر في الغرب وتلعب دورًا في تنوير الناس وتأسيس ثقافة معاصرة من العيار الثقيل.. ومات الرجل النبيل قبل أربعة أعوام.. جمعتني به لحسن حظي صداقة وطيدة.. وكنت لأعوام متواصلة أقول إن المركز القومي للترجمة لن يشتد عوده إلا إذا رأسه طلعت الشايب.. لكن هذا لم يحدث.. حدث أيضا أن تجاوزت رئاسة المركز أسماء مترجمين عظام آخرين.. لا أطعن هنا على أسماء من تولوا أو يتولون رئاسته.. لكن هناك قاعدة بالغة الأهمية في عالم الترجمة: المترجمون نوعان.. نوع يحترف الترجمة وآخر تحترفه الترجمة! بلا إطالة أعني أن هناك من يحترف الترجمة من أجل لقمة العيش فقط، وربما بحثا عن الشهرة إذا ترجم مثلا كتابا مثيرا يشغل الناس حتى لو كان كتابا تافها.. ونوع آخر يقوم بالترجمة من خلال رؤيته لدورها في النهوض بالمجتمع أو بالناطقين باللغة التي يترجم إليها وهؤلاء قلة لاسيما الذين يجمعون بين الرؤية والدور وبين اختيار عناوين تعني القارئ وتهمه.
أقول هذا وأنا أرى العناوين التي تصدر عن الثقافة المصرية مترجمة إلى العربية هذه الأيام أما عناوين تعني النخبة وحدها.. يترجمها مثقف ليقرأها مثقف مثله فهي محدودة الأثر في النخبة.. أو عناوين لا تؤسس لثقافة حقيقية .
الترجمة أيها القارئ الكريم سلاح شديد الأهمية.. تأسست عليه الثقافة المصرية في القرن التاسع عشر على يد الرائد الأعظم لهذه الثقافة رفاعة الطهطاوي.. وتوالت أجيال من المترجمين المصريين العظماء في العقود التي تلت ذلك.. ولاتزال مصر تحظى بأسماء بالغة الأهمية في الترجمة إلى العربية من كافة اللغات (لدى مصر الآن المترجم العظيم نبيل رشوان في اللغة الروسية.. وكان لدينا حتى أبريل الماضي شيخ مترجمي الألمانية الراحل العظيم مصطفى ماهر، وهناك أسماء متعددة في اللغات المختلفة).. أين هؤلاء من صدارة مشهد الترجمة الذي يفترض أنه من صميم اختصاصات وزارة الثقافة؟ السؤال الأهم: كيف لا ندرك ونحن نؤسس الجمهورية الجديدة التي تعد الترجمة أهم أدواتها.. وكيف لا ندرك ذلك ونحن نخوض أخطر معاركنا المتصلة ضد الإرهاب؟ الترجمة سلاح خطير في هاتين المسالتين بالغتي الخطورة.. يجب أن تنظر الدولة للترجمة كمشروع قومي كبير.. وتخصص لها جائزة سنوية كبرى ومستقلة تحفز على الاجتهاد في تقديم أهم العناوين وتمنح لها الجوائز وتتم طباعة هذه الكتب على نفقة الجهة المانحة للجائزة والتي نقترح أن تكون المركز القومي للترجمة.. والذي يجب وأن يتم توسيع دوره ليصبح المجلس الأعلى للترجمة ويضم أهم المترجمين واعلاهم قيمة في كافة اللغات.. وإن يضع هذا المجلس سياسات عميقة الأبعاد للترجمة تساهم بشكل فعال في صياغة العقل المصري.. وهذا المجلس يجب أن يحظى بميزانية كبيرة من الدولة ليتمكن من الاضطلاع بدوره.