الملمح الأبرز في فيلم Peace By Chocolate" / سلام عبر الشوكولا" للمخرج الكندي جوناثان كيجسر، أن بطله هو المخرج السوري حاتم علي (2 يونيو 1962 –29 ديسمبر 2020).. صحيح أن الفيلم الذي تعرضه حاليًا إحدى المنصات العربية الشهيرة، كما تم عرضه ضمن قسم العروض الخاصة بمهرجان القاهرة الدولى الـ43.
صحيح أنه يحكي موضوعًا إنسانيًا مستلهمًا عن قصة واقعية لأسرة سورية، اضطرتها الحرب لمغادرة البلاد، وصحيح أن الحرب قاسية، مخيفة، تنعكس تفاصيلها على هذه الأسرة الفزِعة، لكن حضور حاتم علي هو الأوضح؛ ربما أراد الجميع، متابعون ومروجون للفيلم، رؤيته على الشاشة تعويضًا لغيابه في الواقع بعد رحيله المفاجيء منذ نحو العام، ليظهر هذا الأب الحنون، المثابر، الذي أجبرته الحرب على النزوح والارتحال عن بلاده الدافئة، إلى المجهول في بلاد باردة، والممثل الذي يشارك في تقديم حكاية سورية خاصة مع زملائه الممثلين: يارا صبري، أيهم أبو عمار، مارك كاماتشو، ميشيل بيرون، كاثرين كيركباتريك، اريك ديفيس، داون فورد.
أسرة سورية تفر من وحشية الحرب بعد ما قصفت مصنع الشوكولاتة الذي يمتلكونه، وباتت تهدد حياتهم، يخرج أفراد الأسرة إلى لبنان ومنها إلى كندا، هذه القصة تناقلتها نشرات الأخبار، ليتوقف عندها جوناثان كيجسر، ويقرر أن يحولها إلى فيلم يتكيء فيه على مساحات إنسانية، وُيبين جزءً من التركيبة الديموغرافية الجديدة في كندا، هذه التركيبة التي أصبحت تتخذ شكلًا مغايرًا إثر القبول الرسمي للسوريين في مجتمعه.
من هذه الزاوية يقدم هنا "كيجسر" المخرج والكاتب والمنتج، فيلمه الروائي الطوبل الأول؛ بعد عدة أعمال مسرحية منها الغابة وكباريه، وكذلك أفلام وثائقية وروائية قصيرة منها: ما الذي كان بيتهوفن سيفعله؟، الدفتر، ثورة الطفرة، أحلام ثلاثة، كعك معجون بالدم.
الزاوية التي إختارها إعتمدت على دراما إجتماعية، خرجت من باطن الحرب، فعلى ما يبدو أن التحديات التي واجهها السوريين في بداية لجؤهم إلى كندا، ومحاولاتهم إيجاد أرضية مشتركة مع الكنديين، لفتت إنتباه كيجسر، وأنها ما شجعته على هذا الفيلم.
في مشهد تمتزج فيه برودة جغرافيا الثلج وحماوة انفعال داخلي لـ طارق (أيهم أبو عمار)، هذا الشاب الذي يقف في مواجهة الفضاء الثلجي، نكاد نشعر بدفعات الهواء الباردة تقتحمه، بدا كأنه في مفترق طرق وهو الذي سبق عائلته إلى هنا، يحلم أن يدرس الطب وأن يستأنف حياته وإنسانيته في سلام، يبذل جهدًا لاستقدام والديه وشقيقته مع طفلتها.. طارق موزع بين حلمه وبين أبيه عصام (حاتم علي)، الأب المرغم على فراق سوريا، لكنها تأبى أن تفارق وجدانه، إنها متعمقة في الذات والذاكرة، لذا قرر أن يصنع سوريته الخاصة عن طريق الشوكولاتة، موروثه العائلي، فأنشأ مشروعه لصناعة الشوكولاتة، ولم يرغب ألا يكون ابنه جزءًا منه.
الاختيار مرهق ولكنه حتمي، ندركه مع تصاعد الأحداث وينتصر للإبوة وللجذور الراسخة في سوريا، فالفروع أو الأبناء لا يتخلين عن الأصل، والشوكولاتة ما هي إلا رمز يكرس لهذه المسألة، لم يسرد الفيلم تفاصيل الحرب والدم والعنف الدائر، لم يتوغل في جعرافيا الموت والهجرات السرية، كما شاهدنها في أفلام عديدة أخرى، تابعت فصول الرحلة الخطرة من الوطن إلى حدود بلاد المهجر، وإنما أوصلنا إلى النتيجة مباشرة، ولم يكن فيلمًا اختلط فيه الحسي والمعنوي كما فعل فيلم مثل "شوكولا" الذي أخرجه لاس هالستروم في العام 2000 ، فعصام ليس فيان روشر (جولييت بينوش)، صانعة الشوكولاتة الماهرة بوشاحها الأحمر المتطاير، التي واجهت مجتمعًا محافظاً وغليظًا بالشوكولاتة، لكن ثمة علاقة ساحرة بين الشوكولاتة والحب، إنها المعادلة التي فتحت القلوب لعصام وعائلته، وساعدت على نجاحه في مدينة منحته دعمها.
وفى بعد آخر يقدم الفيلم نموذجًا للأمل والقدرة على التواصل مع الأخر، رغمًا عن ويلات الحروب وأوجاع الغربة، يمكن القول إن هذا الفيلم طرح سؤال الحرب على طريقته، لم ينفصل السؤال عن الواقع الحالي سواء سياسيًا أو إنسانيًا، وبدا في النسيج الدرامي للفيلم شهادة عن معنى مواجهة المصير والبُعد المأساوي المرتبط بالحرب.
إنه باختصار عمل يمكن تلقيه بيسر كفعل إبداعي غير متحرر من الهم السياسي ولا الجمالي أو الفني، لم يسع إلى استعراض عضلاته بين جماليات الصورة وعمق القضية، ولم يكن في ذات الوقت بسيطًا، تلك البساطة مرتبكة في تسجيل رحلة هذه الأسرة، بل غاص في تفاصيلها ومتاهتها الإنسانية قبل الانخراط في مجتمعها الجديد، وقدم معادلة بصرية دون إسراف، ركزت على أداء تمثيلي لافت قدمه حاتم علي، فكان الفيلم تحية طيبة لروحه، كنموذج من نماذج الإبداع السوري التي يصعب نسيانها.