حالة عبثية عاشها الروائي والكاتب محمد جبريل خلال الأيام الماضية، حيث قال أنه مهدد بالحبس والغرامة، بعد صدور حكم ضده بالحبس والغرامة، بناء على دعوة كيدية حررتها إحدى السيدات، ادعت فيها أن العمارة التى يقيم (جبريل) في إحدى وحداتها السكنية، بحاجة إلى تنكيس وترميم، مشيرا إلى أنه يمتلك شقة واحدة من مجموع شقق العمارة، وهو ما يحول بدوره وبين إمكان إجراء عملية التنكيس هذه، ويضيف بأسى: فجأة وجدت نفسي محكوما على بالسجن لمدة عام، وغرامة خمسة آلاف جنيه، والسبب مضحك وعبثى للغاية، فأنا أسكن فى شقة بحى النزهة بمصر الجديدة، العمارة فيها 12 شقة، ووردت أخطاء في دعوة السيدة ضد العمارة، ما عدا أنا الذي ورد اسمي صحيحا، والحي ترك جميع سكان العمارة، وأصبحت أنا الخصم الوحيد، مع إنى لست مالكا للعمارة!
وأوضح: قالت في الدعوة، إن العمارة محتاجة تنكيس، وهو لم ينكسها، والدعوة وصلت إلى النيابة، ودون أن نعرف في هذه الفترة، كنت في مارس الماضي في المستشفى، ولم أستلم إعلان القضية، ولذلك حين جاء دور الخبير، قال إن السكان لم يرجعوا إلى الحي، ولما لم يحدث التنكيس، سارت الدعوة ضدي غيابي، وصدر ضدي الحكم المشار إليه، مع إني مجرد مالك لشقة واحدة من مجمع شقق العمارة، وليس لدى صلاحية عمل التنكيس، وتابع: عملنا مراجعة بعد صدور الحكم الأول، لكي نقول إن الحكم غير صحيح، إلا أن المحكمة أكدت على الحكم الأول، أى أنه صدر ضدنا حكم يكاد يكون نافذ إلا إذا لجأنا إلى الاستئناف، لنقول فيه القصة.
وكأنه كان يستشرف ما سوف يحدث له قبل سبعة أشهر من وقوعه، فأجواء روايته (مشارف اليقين) التي صدرت في مايو الماضي تشبه إلى حد كبير القصة الحالية التي يعيشها، بحسب ما جاء في كلمته على الغلاف الأخير: (هواجس كثيرة تلح علي وتطاردني، أعرف أن هناك من يدبرون لكل ما أعانيه ويقفون وراءه ويختبئون في مكان، يرونني ولا أراهم، ينظرون لحظة الانقضاض، أتهيأ لهذه اللحظة، لا أعرف صورتها، ولا كيف تطالعني، لكنني أوطن نفسي على لقائها، لا أعرف من هم ولا لماذا يتآمرون، وكيف أصل إليهم لأتبين تدبيراتهم، فأقاومها، أزيح جانبا من الستارة، أنظر من المنفذ الطولي على الشارع، أنظر إلى الجهة المقابلة، هؤلاء الذين يقفون على سلالم مدخل البيت، يتبادلون كلمات تعكس الملامح جديتها، يتبادلون التطلع نحو النافذة).
وأيضا من أجواء الرواية: (يتملكني الشعور بالشك في كل النظرات التي تتجه ناحيتي، أراهم في نواصي الشوارع ومداخل الأبنية وعلى المقاهي وفي المساجد، ومحطات القطار والحدائق، أعبر الرجل ذا البالطو الذي لا يبدله، اعتدت رؤيته مستندا إلى البيت المتهدم ذي الطابق الواحد، في انحناءة الطريق الحجازي، أدخل الشقة، أتلفت، أتشمم رائحة أفتقدها، مغايرة لما أعتدته، أجلس في أي مكان وظهري إلى جدار، أحدق في السقف والأرضية والجدران، أحرص قبل ارتقاء السرير على إحكام رتاج باب الشقة، وعلى إغلاق النوافذ).
ومن أجل ذلك انتفض عدد من المثقفين، لمناشدة، الجهات المسئولة وعلى وفي مقدمتها رئاسة مجلس الوزراء، للتدخل العاجل لتدارك أثر الحكم القضائي الذي صدر ضد الروائي والأديب الكبير محمد جبريل، والذي يهدده بدفع غرامة مالية وتنفيذ حكم بالسجن لمدة عام، بعدما اختصمه الحي ورفع عليه قضية لتنكيس العمارة التي يسكن بها، وفي بيان تضامن المثقفون بنشرة على صفحاتهم الشخصية مطالبين فيه بسرعة إنقاذ الروائي والكاتب الصحفي الكبير من عقوبة السجن التي تلاحقه وهو في العام 82 من عمره.
والروائى محمد جبريل، لمن لايعرفه، بدأ حياته العملية سنة 1959م محررا بجريدة الجمهورية ثم عمل بعد ذلك بجريدة المساء، وعمل خبيرا بالمركز العربي للدراسات الإعلامية للسكان والتنمية والتعمير، ومن أعماله الروائية (رباعية بحري، وإمام آخر الزمان، من أوراق أبو الطيب المتنبي، قاضي البهار ينزل البحر، الصهبة، قلعة الجبل، النظر إلى أسفل، اعترافات سيد القرية، زهرة الصباح، رجال الظل، المدينة المحرمة، زمان الوصل) وغيرها.
وبما أن المكان (شقته في النزهة) هو بطل أزمته الحالية فلابد من الإشارة إلى أن جميع رواياته يحظى فيها المكان بمنزلة خاصة، وليس المكان الروائي عنده حيزا جغرافيا أو بعدا هندسيا مجردا تقع فيه الأحداث، وتتحرك فيه الشخصيات بأسرها: النامية والمسطحة على حد سواء فحسب أو عنصرا ثانويا زائدا في الرواية لا قيمة لوجوده، ولا وزن لحضوره، ولا دور لتأثيراته في العناصر الأخرى، بل هو ركن أساسي من أركان البناء، وعنصر حيوي فعال تزداد قيمة حضوره بتداخل عناصره معا في علاقات جدلية فاعلة، وجزء لا يتجزأ من البنيان الفني الذي يصور بجلاء مدى امتلاك الروائي الفنان لأدوات التشكيل الفني، وقدرته على الخلق والتواصل والتجريب.
وهل يعقل أن يكون مصير محمد جبريل الحبس لمدة سنة وغرامة 5 آلاف جنيه بسبب خطأ وقع بسبب المكان الذي يعيش فيه آخر أيامه، وهو الذي انتصر للمكان في غالبية روايته، حيث يساهم المكان بحضوره الفني المميز في أعماله الروائية، وبما يحمله من أبعاد سياسية تاريخية واجتماعية نفسية في خلق المعنى والدلالة، ورسم الشخصية وتحديد أبعادها، وإبراز الرؤية المعبرة عن موقف صاحبها من الكون والحياة والإنسان، (والحال أن المكان لا يعيش منعزلا عن باقي عناصر السرد، وإنما يدخل في علاقات متعددة مع المكونات الحكائية الأخرى للسرد كالشخصيات والأحداث والرؤيات السردية، وعدم النظر إليه ضمن هذه العلاقات والصلات التي يقيمها يجعل من العسير فهم الدور النصي الذي ينهض به الفضاء الروائي داخل السرد.
ويلعب المكان باشتراكه مع العناصر الروائية الأخرى عند (جبريل) دورا أساسيا في البناء والتشكيل الروائي الخلاق الذي يدعم البنيان الفني وينهض به، وسواء أكان هذا المكان واقعيا حقيقيا أم تخيليا مصنوعا فإن قيمته تزداد أهمية بمدى قدرة الروائي نفسه على خلقه وتصويره والتعبير عنه أو به، وصياغته صياغة جديدة تؤكد دوره الفعال ووجوده الحي، إذ تعطي قدرة الكاتب على خلق المكان الروائي وصياغته (عمقا للأحداث والشخصيات من خلال العلاقة الجدلية التي تربط بينه وبين عناصر النص الروائي، فكلما اقترب المكان من مركزية النص الروائي كان أكثر عمقا وكثافة)، كما يشكل المكان الفني في أعمال جبريل الروائية عالما زاخرا ممتدا مؤثرا مفتوح الدلالات، متقاطع الدوائر، متشابك الخطوط له علاقاته وأبعاده اللامتناهية القابلة للقراءة والتشكيل على الدوام، يتداخل مع العناصر الروائية الأخرى، ويشارك في صنع الحدث وتطور الشخصية، وبلورة الرؤية، وإنتاج المعنى.
ويبدو جبريل بذلك (شأنه شأن أي عنصر من عناصر البناء الفني يتجدد عبر الممارسة الواعية للفنان، فهو ليس بناء خارجيا مرئيا ولا حيزا محدد المساحة ولا تركيبا من غرف وأسيجة ونوافذ، بل هو كيان من الفعل المغير، والمحتوي على تاريخ ما والمضمخة أبعاده بتواريخ الضوء والظلمة)، لذا فهو يتخذ من المكان بؤرة مركزية وقاعدة محورية في السياق الروائي العام تشد بقية العناصر إلى بنيتها، وتوظفها لتكون رمزا لما هو أبعد وأشمل وأرحب أفقا، فالمكان عنده لا يوصف لذاته أي (لا يوصف لمجرد تأكيد القدرة على ذلك، المكان جزء عضوي في الرواية، خيوط في نسيجها، يضيف إلى دلالاتها وإيحاءاتها وصورتها الكلية).
ومما لا شك فيه أن لكل مكان روائي مفرداته وسماته، ومقوماته وأبعاده، وخصائصه وتفاصيله الفنية التي تميزه، وتعيد خلقه في صور جديدة تختلف عن واقعية وجوده في صلب العمل الفني الذي تشكله مفردات اللغة، وترسمه وسائلها التعبيرية، وتجسده أدواتها التخييلية، وتساهم في إعادة بنائه طاقاتها الإيحائية، وهنا يتفنن جبريل في تقديم صور المكان في أعماله الروائية المختلفة، موظفا كل طاقاته في تجسيدها وإعطائها دلالات جديدة قد تكون معادلا موضوعيا لما يدور في واقعنا المعيش من قضايا وأحداث فتبرز بذلك مدى أهمية تشكيل المكان، وصياغة مفرداته، وتقديم صوره، وإخراج عناصره في فتح مغاليق النص، واستنطاق دلالاته بوصفه مفتاحا رئيسا لا غنى عنه للولوج في عالم جبريل نفسه بما يحمل من رؤى وأبعاد.
ولا تدل جماليات المكان عند جبريل على الثبوت - ترى هل لهذا السبب طالبوه بالتنكيس للعمارة التي يسكنها - (بل تدل على جغرافية متحركة متقنة الرسم من قبل المبدع الذي ينقلك من حارة إلى حارة عبر أزقة وشوارع لها بعدها التاريخي والزماني، ولها هالة حضارية تتفاعل فيها عواملها الثقافية المختلفة من تاريخية وفنية وشخصانية لها من المجد العلمي والإنساني والسياسي والتاريخي والفني ما لها من قيمة تحيل القارئ إلى مرجعيات ثقافية لها خلفيتها المتوارية التي لا يمكن فتح شفراتها إلا بالعودة إليها في منابعها.
ربما أدرك حي النزهة بفلسفة محمد جبريل للمكان باعتبارة جغرافية متحركة، فأرادوا أن ينعشوا ذاكرته من جديد بالعودة لـ (لبحري) بالإسكندرية حيث له مذاق خاص، ونكهة خاصة، وذكريات محفورة في أخاديد الذات، وحكايات متغلغلة في الأعماق منذ الطفولة وإلى الآن، جعلت منه السيد البطل في معظم ما كتب، والوجد المكاني اللازم في قلب (جبريل) الذي يسكن القاهرة بجسده، ويحيا بكل حواسه ومشاعره في أرجاء بحري والسيالة والأنفوشي والعطارين والمينا الشرقية، ومقامات الأولياء الصالحين فيرسم صورها ببراعة وإتقان، ويشكل لوحات عشقه لها بفنية واقتدار زاخر القسمات والملامح والظلال والرؤى والألوان.
حتما هم يذكرونه بقوله: (بحري هو الاختيار الطبيعي، أعرف ناسه ومساجده وبيوته وميادينه وشوارعه وأزقته، أستدعي الذاكرة فترتسم بانوراما المكان بكل أبعادها ... أنا لا أستطيع أن أتصور شخصياتي إلا نادرا في غير تلك المنطقة التي تبدأ بسرى رأس التين وتنتهي بنهاية شارع الميدان، عالم يفرض نفسه في كل ما اكتب، وظني أن موظفي حى النزهة لايدركون حقا أن المكان في أعمال جبريل الروائية يتجاوز أبعاده الجغرافية والهندسية المرسومة إلى أبعاد جديدة مؤثرة في بنية العمل الفني التي تصوغها قدرة الفنان، وتشكلها الرؤية وتخرجها الموهبة الفذة في ذلك، فللمكان في معظم ما كتب (جبريل) شخصيته الخاصة، وإيقاعه المتميز، ورموزه الدالة، ومفرداته اللائقة وعاداته وتقاليده وطقوس حياته، وعلاقاته المتشابكة التي تثري النص وتعمقه، وتنطلق به ليكون صورة بانورامية كبرى لما هو أوسع وأعمق، لأنه عند جبريل (ليس هو الأرض والسقف والجدران، ولا الأثاث ولا السكان المحددين، المكان هو العالم أو القضية).
وطالما أن جبريل يؤمن بأن (المكان) ليس هو الأرض والسقف والجدران، إذن عليه أن يرحل من وجهة نظر (حي النزهة) ، خاصة أن المكان في أعمال جبريل زاخر الأشياء، ممتلئ القسمات، متنوع الفضاءات، موزع الدلالات، متغير متحرك لا ساكن ثابت، واقعي حقيقي حينا، وفني خيالي حينا آخر، تارة نجده ممتدا مفتوحا، وتارة نجده محددا مغلقا وهو في الحالين معا مؤثر فيما حوله، ومتأثر بما حوله، ومعبر عن وجوده الحي الفاعل في بقية العناصر المختلفة - معنى ومبنى - ومن ثم فعليه أن يحمل متعلقاته قاصد (بحري) با لأسكندرية أفضل له ولحىي النزهة فعلى الأقل كي يتذوق طعم الحياة الإسكندرانية في (قهاوي) السيالة ورأس التين !.