ذات يوم من شهر سبتمبر الماضى، وجد الصديق الشاعر الضوى محمد الضوى نفسه يتيمًا، حدث ذلك بعد ساعات قليلة من دخول الوالد العناية المركزة فى الأقصر، رحل فجأة، ومع ذلك ظهر الضوى متماسكا شجاعا فى مواجهة الفجيعة، لم يصرخ على صفحات السوشيال، لم يقل صرت وحيدا يا أبى، مع أنه صار وحيدا بالفعل، لكننى كنت أترقبه أعرف أن فى قلبه بركانا يريد أن يثور، يريد أن ينفجر، لا يمنعه سوى إيمان صاحبه.
وبعد هذه الشهور الصعبة خرج علينا الضوى بنص رثاء، لا تملك حين تقرأه سوى مجاوبته بالدمع، فقد تجاوز فيه شخصه وذاته، ووقف يرثى الجميع، يرثى الواقعين تحت سطوة الموت، الذى يحمل في يده منجلا يأخذ الأرواح ويخلف الحزن.
فى البيت
بعد موت أبي
يهرب كلٌّ منا بعينيه من عينى أخيه
من عينى أمه
كى لا تلتقى أعيُنُنا فتقول لبعضها بعضًا: (لقد مات)!
الذين عاشوا في الصعيد يعرفون ثقل الموت على البيوت التي فقدت أحباءها، إنه يحط على الجميع مرتديا القتامة ومصحوبا بدرجة من الإحساس بالذنب، فلا كلام، ولا ضحك، ولا ابتسامة، ولا حتى نظرة رضا في العيون، إننا لا نتحدث على الراحل إلا في صمت، لا نقول مات، لأننا لا نصدق أن ذلك حدث فعلا.
إننا نتحرك فى غرف البيت وممراته
كحركة النمل المنتظمة
الدؤوبة
عندما يمد شخصٌ متطفلٌ يدَه وينتزع من الصف المنتظم نملةً
لابد أن سرب النمل يصرخ
يصرخ وينتحب ويسكب دمعا لا نراه
لكنهم أبدا لن يتوقفوا عن سيرهم المنتظم
خروجا ودخولا إلى الجُحر
إن الصورة التي اختارها الضوى مناسبة تمامًا للحالة، على المستويين العام والخاص، فإن حالنا بالفعل يشبه حال سرب نمل ضعيف رغم ما يبدو عليه من الانتظام والجدية، وذلك لأن هناك يدا أقوى تبطش به وتسرق منه فرحته.
وهذه القوة الخادعة التي نظنها في النمل، هي ما ظنناها في صمت الضوى وتجلده، ولم نتبنه للصراخ الذى لم نسمعه.
لكننا مع ذلك، نفكر فى الانتقام
لقد غاب فردٌ من قبيلتنا الصغيرة.. قبيلتنا الهادئة.. ولابد أن ننتقم
لابد أن نأخذ القاتل مكانَه!
هل سنكتفى بالقاتل، أم سنأخذ مجموعةً من عائلته مقابل أبي؟
هذا ما يدور فى رؤوسنا لثلاثة أشهر مضت
لا تلتقى عيوننا، لكن رؤوسنا تجتمع على مائدة الفكرة ذاتها كل مساء
الألم هو الوقود الذى يحرك المشاعر ويطرح الأفكار، وبفكر الرجل الصعيدى الذى لا يتقبل موت الأحبة حتى يثأر لهم، فكر الضوى، فلابد من الثأر كى تهدأ النار، كي تلتقى العيون بين الأخوة والأم، ولكن المعضلة كانت كبيرة.
لكن القاتل هو الموت ذاته..
أى قبيلةٍ له فنهاجمها؟
أين يكمنون فنرتب للانقضاض عليهم ونفنيهم جميعا؟
إنه كائن فردٌ وبلا قبيلة!
ولو كان له قبيلة فقد كرهته، أنكرته
ألقته وحيدًا فى خرابات الخسّة والوضاعة
يهاجم المرضى المنهكين فى غرف العناية المركّزة
يهاجم الأطفال والعجائز، الضاحكين والباكين معا
يهاجم ولا يشبع!
أين نجده فنقتله وننتقم لك يا أبي؟!
يا له من عدو، إن ما قدمه الضوى في هذا النص يشعرنا بالفزع فعلا، إننا نواجه قاتلا لا يخشى شيئا، ليس لديه ما نساومه عليه، إنه شريد ليس له قبيله، إنه نهم لا يشبع، إنه يهاجم لا ينتظر رد فعل، لا يترك أحدا، فالجميع ضحيته، يأخذ الأطفال والعجائز، والضاحكين والباكين، لذا ما أصعب الثأر.
متى سنأخذ العزاء فيك بقلوب مطمئنة وقد اقتصت من قاتلك؟!
إننا نبحث عنه فى كل مكان
وهو خفي، يسقط ضحاياه فجأة، ويهرب
نسمع الآخرين يقولون فلان مات!
نركض إليهم ونسأل: هل رأيتم الموت وهو يقتلعه من بينكم فننقذه ونأخذ الثأر لأبينا؟!
لكنَّ أحدًا لا يجيب يا أبي.. أحدًا لا يجيب!
وأعيننا مازالت هاربة
وقلوبنا يخزيها أن قاتلك مازال حرا
ومازالت ضحاياه من قبائل أخرى -هادئةٍ مثلنا- تسقط وتسقط..
وما من واحدٍ قادرٍ على الأخذ بالثأر!
هذه الجملة الأخيرة هى جوهر القصيدة، وذلك لأن فيها رثاء للأحياء العاجزين على الثأر غير القادرين على توديع موتاهم كما ينبغى.
ما قاله الشاعر الضوى محمد الضوى، أعده من عيون الرثاء في العصر الحديث، فقد جمع بين مشاعر الفقد والحزن وقلة الحيلة ومنح مساحة للتأمل في مصائر المنتظرين.