تفاعل عدد كبير من القراء والزملاء والأصدقاء مع قضية الأظرف وكشوف الحساب التي ترسلها البنوك لعملائها، وشركات الخدمات البريدية التي تتعامل مع هذه الأظرف باعتبارها "كم مهمل"، فيتم إلقاؤها في الطرقات أو مداخل العمارات، أو تسليمها للبواب، لتصبح بياناتك الشخصية وحساباتك المصرفية على المشاع، بالإضافة إلى ما قد يترتب على هذه الأفعال حال وقوع تلك البيانات مع أحد محترفي النصب، فيتسلل إلى حساباتك، وينتحل شخصيتك، وهذه جرائم نراها ونتابعها ونقرأ عنها يومياً.
المشكلة الأساسية أن أغلب المراسلات الورقية للبنوك قديمة، ويعرفها العميل مسبقاً، ولا تقدم أي إضافة، ويتم إرسالها لاستيفاء الإجراءات القانونية، التي تقتضي إخبار العميل بحركة الحساب، وقيمة المديونية الشهرية، لذلك يتعامل معها الجميع باعتبارها "غير مهمة"، بداية من البنك نفسه، مروراً بموظف شركة البريد، حتى تصل إلى يد العميل أو الجيران أيهما أقرب.
البنوك على اختلاف أنماط ملكيتها، حكومية أو خاصة، شرعت خلال الفترة الماضية إلى تحذير العملاء من اختراق بياناتهم الشخصية، وخطورة استغلال كروت الائتمان، وقد وصلني شخصياً العديد من الرسائل عبر الهاتف تحذرني من تبادل المعلومات والبيانات البنكية مع أحد، في حين أن البنوك ذاتها تكشف سرية الحسابات والمعلومات مرتين، الأولى لموظفي شركات الخدمات البريدية، والثانية عندما يتم إلقاؤها في مدخل العمارة فيعبث بها من يشاء، ويطلع عليها المتطفلون.
لو نظرت البنوك العاملة في مصر لقضية الأظرف والأوراق التي يتم إرسالها إلى العميل شهرياً، بين كشوف حساب ومديونيات بطاقات الائتمان، أو بيانات سداد القروض من منظور بيئى، لاتخذت فوراً القرار بضرورة وقف التعامل بالورق إلى غير رجعة، فقد أصابتنى الدهشة بعدما طالعت تقريراً لموقع قناة العربية، يكشف حجم الورق الذى يتم إهلاكه سنوياً، ويصل إلى أكثر من 400 مليون طن، يدمر ملايين الأشجار حول العالم، فالولايات المتحدة الأمريكية وحدها تقطع 68 مليون شجرة سنوياً لتصنيع الورق، باعتبارها أكبر منتج لهذه الصناعة بالعالم، في حين أن 45% من الورق المطبوع في الأعمال المكتبية ينتهى إلى القمامة، وهو ما يزيد عن تريليون ورقة في العام!!
وذكر التقرير أن إنتاج العجينة والورق، خامس أكبر مستهلك للطاقة، إذ يحتاج إلى ما نسبته 4% من مجموع استهلاك الطاقة في العالم، كما أن صناعة الورق تحتاج إلى الماء أكثر من معظم الصناعات الأخرى، ويشكِّل الورق مكوّناً أساسياً للنفايات وتبلغ نسبته 35%من القمامة، بالإضافة إلى أن صناعة العجينة والورق تعتبر ثالث أكبر ملوِّث للهواء والماء والتراب في كل من كندا والولايات المتحدة الأمريكية، وينتج عنها أكثر من 100 مليون كيلوجرام من الملوثات السامة كل عام، و40% من الأشجار المقطوعة في العالم لأغراض صناعية، تستعمل لصناعة الورق، وإذا استمرت وتيرة قطع أشجار الغابات على حالها، فلن تمر 100 سنة قبل أن تختفي الغابات المطيرة تماماً من كوكب الأرض، لذلك بات الأمر جد خطير، وليس مجرد دعابة أو كلمات من أجل إلقاء اللوم على البنوك أو شركات الخدمات البريدية، بل الموضوع أكبر وأعمق وله آثار بيئية كارثية.
لست ضد أن تُحصِل البنوك نفس المبالغ المالية، مقابل تحويل خدمة إرسال المستندات البنكية من ورقية إلى إلكترونية، وهذا الحل سوف يحفظ بيانات العملاء، ويجعل قضية استهلاك الورق والأظرف إلى غير رجعة، فلا يمكن أن يرسل بنكا نحو 10 ملايين ظرف شهرياً لعملائه، فهذه تكاليف طائلة وحجم إهلاك بلا حدود.
يمكن أن تلخيص حلول مشكلة الأظرف البنكية وحجم استهلاكات الورق داخل البنوك، وضمان الحفاظ على سرية بيانات العملاء في النقاط التالية.
أولا: - إلغاء التعاملات الورقية بصوة نهائية وتحويلها إلى إلكترونية بنفس التكاليف التي يفرضها البنك، وعلى من يرغب فقط من العملاء في المراسلات الورقية أن يتم تحقيق رغبته بناء على اتصال هاتفي من خدمة العملاء.
ثانياً:- إجراءات التحويل من النظام الورقي إلى الإلكتروني، يجب أن تكون سهلة وميسرة، ولا تخضع لتعقيدات، ويمكن تفعيلها من خلال رسالة على الهاتف المحمول من خلال رقم معين أو مجموعة أحرف يحددها البنك، وتتم العملية بمجرد الإرسال.
ثالثاً:- يمكن استغلال فرصة التحول من النظام الورقى إلى الإلكتروني داخل البنوك في تحديث بيانات العملاء، والتخلص من الحسابات الراكدة، وفقا للتعليمات والضوابط التي وضعها البنك المركزي، في أغسطس الماضي بضرورة التخلص من هذه الحسابات وضبطها وفقا للقواعد المصرفية.
رابعاً: - تجاوز النظام الورقى داخل البنوك سوف يحقق عوائد وأرباح للمؤسسات المصرفية، وسوف يصبح له مردود بيئى ممتاز، وقد بدأت بالفعل عدد من البنوك اتباع هذا النظام، لدرجة أنها تعطى خيارات للعميل أمام ماكينة الصراف الآلى بين طباعة بيانات الرصيد أو لا حفاظاً على البيئة.
خامساً: - إن كانت البنوك وشركات الخدمات البريدية لا تقتنع بكل ما سبق، وسوف ترسل لعملائها الأظرف والمراسلات كما هو الحال، فيجب أن تضمن تسليمها لأصحابها، والتأكد من ذلك وهذا أضعف الإيمان.