نحو 40% من سكان مصر، وقرابة 75% من مساحتها الإجمالية، لكنه على مدى عقود طويلة مضت لم يحظ بأى من النسبتين فى خريطة الإنفاق والتنمية واهتمام الدولة. الآن فقط يبدو أن تلك الصورة المقلوبة قد اعتدلت، وأن "صعيد مصر" بات يتبوّأ مكانة لائقة بين أولويات الدولة وخطط عملها.
فى الوعى العام يبدأ الصعيد من المنيا، وبعض أبنائه قد يُغالون معتبرين البداية من أسيوط. لكنه عمليا يمتد من أطفيح جنوبى الجيزة حتى أسوان وحدودنا الجنوبية مع السودان، وما بينهما من خط الحدود الليبية حتى ساحل البحر الأحمر، بإجمالى 11 محافظة تضم 81 مركزا و100 مدينة، وجغرافيا تتجاوز 730 كيلو مترا مربعا، وتعداد يناهز 40 مليون نسمة، حسب المؤشرات الإحصائية للعام 2019.
اليوم كان الصعيد على موعد مع زيارة رئاسية، افتتح خلالها الرئيس عبد الفتاح السيسى عددا من المشروعات، يتصدّرها مجمع التكرير وإنتاج البنزين العملاق بمحافظة أسيوط، فضلا عن نقاط تنموية أخرى فى قطاعات الطاقة والصحة والتعليم والنقل والمرافق والخدمات. ورغم أهمية تلك المحطة وما شملته من عناوين ورسائل واضحة، فإن الأمر يتجاوز المشهد المباشر، والدلالات تتسع بعيدا من مسألة الزيارة والافتتاحات وتوقيع كتاب يوثق إنجازات الدولة خلال سبع سنوات؛ إذ إن المعنى العميق وراء تلك الصورة أن ثمّة دماء جديدة تجرى فى شرايين الدولة، وأننا إزاء نمط مغاير للإدارة والتخطيط وترتيب الأولويات، ما يُمثّل وعدًا راهنًا بالتنمية، وبشارة مستقبلية برؤية المسار، وقطع خطوات جادة فيه، وامتلاك فلسفة حقيقية لإعادة هيكلة الدولة على وجه شامل، يعيد اكتشاف قدراتها، ومكامن قوتها، ويخلق توازنا حقيقيًّا ومنضبطًا بين مكوّناتها، ولا يُهمل طرفًا لصالح آخر، والأهم أنه يُوظّف كل هذه الأطراف لصياغة خلطة نجاح وطنية جديدة، تراعى مقومات الجغرافيا وأبعاد التاريخ، واعتبارات الاستدامة وتجذير ثقافة الانتماء والمواطنة، ليس تجاه مصر الدولة والغلاف الجامع وحدها؛ ولكن تجاه كل جزء منها أيضًا، بما يقود إلى توطيد حضور المصريين جميعًا فى بيئاتهم المحلية، والاستفادة من ثراء تلك البيئات وتنوُّعها فى تعزيز قدرات النهوض والنجاح.
إشارة الاهتمام كانت سابقة على ما جرى اليوم. استشعرها كثيرون مع انطلاق دولة ما بعد 30 يونيو، بما رفعته من انحيازات وطنية واجتماعية لا تفرز ولا تُفرّق، وتضع أية مصلحة على طاولة الدولة إلا مصالح المصريين أنفسهم. أما بشكل شخصى فقد رأيت الأمر مُتحقّقًا بقوة ووضوح فى مشهد آخر، قد لا يراه البعض مرتبطًا بواقع اللحظة وتحدّياتها، وذلك عندما سارت مومياوات اثنين وعشرين من ملوك مصر القديمة فى قلب القاهرة ربيع العام الجارى. تلك القائمة التى يُمكن حسابها على الصعيد/ الجنوب، والذين عاشوا وحكموا ورحلوا قبل أن تُوجَد القاهرة، زيّنوا قلب العاصمة الحالية فى موكب مهيب، قرأت من ظاهره رسالةً جوهرية بأن قاهرة الآن لديها قلب وعقل وذاكرة، وتعرف آباءها الفعليين حتى لو رحلوا قبل قرون، وتُجيد الاستقبال والاحتفاء واستكشاف أفضل ما فى خزانتنا، وتجميله بأحلى ما فى خيالها وأعلى ما فى طاقتها. حضر ملوك الجنوب فى القاهرة، وكأنه حضور للجنوب نفسه/ الصعيد فى العاصمة، وبات طبيعيا أن تنتقل العاصمة بنفسها إلى الجنوب، لتصنع موكبا عصريا للتنمية، يضاهى موكب المومياوات فى جماله وإتقانه وإجلاله للحاضر والتاريخ.
مشهد الصعيد اليوم يبدو مختلفًا، لكنّ استقراءه ومحاولة تقييم حدود المغايرة والتبدُّل، يتطلّبان العودة فى الزمن واستبصار ما كانت عليه الأوضاع. عقود وسنوات طويلة عاشها جنوب مصر عاريًا من اهتمام الدولة، وبعيدًا عن أنظار المركز وقلب الإدارة السياسية والتنفيذية، وأيًّا كانت أسباب هذا الجفاء وحدود الاختلاف حولها، فالمقطوع به من الجميع أن هذا الوضع لم يكن مثاليًّا، بل لم يكن الطبيعى والواجب تجاه منطقة شاسعة تمثل جانبًا ضخمًا من حضارة مصر وثقلها الثقافى والجغرافى والاقتصادى. فى السنوات الأخيرة - تحديدا ما بعد 2014 - التفتت الإدارة المصرية جنوبًا، بكل اهتمامها وكامل طاقتها. لم ينحصر الأمر فى رسائل المواساة وتطييب الخاطر، أو فى زيارات عابرة لا يتبدَّل ما بعدها عمّا قبلها، وإنما كانت الزيارة تاليًا للفعل، وكانت الرسالة تهنئة بالتحقُّق، تُؤكّد الفلسفة وتُرسّخها، وهى أن الصعيد ليس جزءًا زائدًا على حاجة الدولة المصرية، وأننا جميعًا نحتاج كل طاقته بقدر ما يحتاجنا، ونضعه فوق رؤوسنا؛ لأنه يحمل هذا البلد وتاريخه وتطلُّعاته فى قلبه وبين عينيه.
فيض من الأرقام طالعناه اليوم، فى حديث الرئيس عبد الفتاح السيسى، وفى رسائل رئيس الحكومة الدكتور مصطفى مدبولى، ووزراء الإسكان والبترول والمالية والتعليم العالى، ويمكن أن نعيد التذكير بها لاكتشاف التحولات وحجم الفارق بين اليوم وأمس. نحو 1.1 تريليون جنيه مشروعات خلال 7 سنوات، و180 مليارا ضمن المرحلة الأولى للمبادرة الرئاسية "حياة كريمة"، و45 مليارا للصرف ومياه الشرب، و48 مليارا ضمن "تكافل وكرامة"، و365 مشروعا فى مجال الطرق والنقل، و188 ألف وحدة سكنية، وتوصيل الغاز الطبيعى لـ1.1 مليون وحدة سكنية، وغيرها من أعمال ومنجزات. لكن ما وراء الأرقام ربما يكون أعمق أثرًا وفاعليّة، وهو حجم المنفعة الاجتماعية والاقتصادية المباشرة من تلك المشروعات، والأثر الإيجابى الذى يستشعره كل مواطن فى محافظات الصعيد، كلّما خطت قدمه على طريق، أو ارتاد منشأة تعليمية أو صحية، والأهم من ذلك الأثر النفسى الذى أحدثه وضع الصعيد فى بؤرة الاهتمام، بتذويب ميراث الإهمال والتهميش، وتغذية مشاعر الانتماء والمواطنة، مع استشعار كل صعيدى مصرى أصيل أنه عاد رقمًا فى المعادلة، بل الرقم الأبرز فى رهانات الدولة وقيادتها على البناء والتنمية، حسبما قال الرئيس غير مرّة، وأكّدت الأفعال والمشروعات فى كل المرات.
افتتاحات أسيوط اليوم خطوة تنموية مهمة، أثق تمامًا فى أنها لن تكون الأخيرة على امتداد صعيد مصر، أوّلاً لأن كل محافظات الجنوب تشهد نشاطًا لا ينقطع بالفعل، وثانيًا لأن عقل الدولة أصبح مُدركًا لأهمية هذا الكنز الجنوبى العظيم، وثالثًا لأن أهل الصعيد أنفسهم لن يُفوّتوا الفرصة، وسيُحسنون استغلال هذا الاهتمام وتعميق تلك الطفرة، والأهم بالطبع: لأننا جميعًا أدركنا مَواطِن الخلل طوال العقود الماضية، ورأينا آثار الإهمال ولن نُكرّرها، وفوق كل ذلك عرفنا الطريق وأصبحنا نملك وصفة العمل والإنجاز.. هكذا يعود الصعيد بؤرة عمل وإنتاج وإشعاع، وهكذا نضمن الاستمرار، ونثق فى أن من آمنوا بالحلم وابتكروا مساره لن يخذلوا الحالمين على اتساع الجنوب، ولن يُقصّروا فى اقتناص أية فرصة ممكنة لاستعادة مجد مصر العليا، حتى تعلو مصر بكاملها مُجدّدًا إلى ما يليق بها، من الساحل للدلتا ومن الصحراء للصعيد، فى موكب ازدهار وتنمية تمشيه كل أطراف مصر معا، كما مشى ملوك مصر القديمة فى قلب القاهرة.