أوشك 2021 على الانتهاء، وبينما تستقبل الأرض عامًا جديدًا بمظاهر تبدو قاتمة، وفى أجواء يسيطر عليها الحذر أو الإغلاق، تستعد مصر لحدث ضخم، ومُلتقى بشرى فريد فى مادته وتنوُّعه، وكأنه احتفاء بالإنسانية القوية فى واحدة من لحظات ضعفها، واحتفال بالعام الجديد نيابة عن العالم بكامله.
أقل من أسبوعين على الانطلاق، واستعدادات مُكثّفة قاربت الانتهاء، وحالة ترقُّب محلية وعالمية من دون شك، لأن حدثًا بتلك الضخامة ينعقد فى مصر على مدى أربعة أيام، بآلاف الحضور من كل أنحاء العالم، بينما ما تزال دول عديدة، كبرى ونامية، تُكافح من أجل إبقاء الحياة فى حدِّها الأدنى، وتغلق أبوابها - فى موسم الأعياد الأهم - على غير عادتها.
ساعات على بدء العام الجديد. من غير المُتوقّع أن يشهد العالم ما اعتاده من أجواء احتفالية، مع توسُّع كثير من الحكومات فى قرارات الإغلاق أو تقييد الحركة، وفرض إجراءات إلزامية لمكافحة جائحة كورونا ومُتحوّرها الجديد "أوميكرون". مقابل تلك الحالة من الهلع، تتأهّب مصر بعد تسعة أيام فقط من بدء العام الجديد لاستقبال نحو 7 آلاف شاب من قرابة 196 دولة، واحتضانهم فى محفل إنسانى وثقافى غير مُتكرِّر عالميًّا، ومنصَّة حوارية أثبتت فاعليتها على مدى الدورات السابقة، وتركت أثرًا ملموسًا فيما يخص مساندة الشباب، وتلاقح الأفكار، وربط الثقافات، ولفت أنظار الحكومات والمؤسَّسات السياسية إلى ما يحمله هذا الجيل من أفكار وطاقات.
ثلاث دورات سابقة أسَّست هذا المحفل، ورسَّخت مكانته لدى الشباب، ليكون أهم منتدى حوارى ومنصّة لقاء للأجيال الجديدة من كل العالم. تلك الصورة يؤكدها الإقبال المُطَّرد، والنمو المتتابع للفعاليات وأعداد المشاركين. من 3 آلاف يُمثّلون 113 دولة بالدورة الأولى 2017، إلى 5 آلاف فى 2018 و7 آلاف فى 2019، وصولاً إلى 500 ألف مُتقدِّم من 196 دولة للمشاركة بالنسخة المُرتقب انطلاقها خلال يناير. وإلى ذلك تنمو الفعاليات أيضًا، وتتّسع دوائر المشاركين، وتُسفر كل دورة عن حزمة أفكار واقتراحات وبرامج عمل مُهمّة، لعلّ أبرزها ملتقى الشباب العربى الأفريقى الذى احتضنته محافظة أسوان. فضلاً عن مسرح شباب العالم، ونماذج المحاكاة، وبرامج الشراكة الفعّالة مع عديد من الجهات والمؤسَّسات.
اعتُمد منتدى شباب العالم فى فبراير الماضى منصَّة دولية للحوار من الأمم المتحدة، وينظم فى دورته المقبلة نموذج محاكاة مجلس حقوق الإنسان الدولى التابع لمنظمة الأمم المتحدة (MUNHRC) الذى تقدَّم له 5 آلاف شاب. وهى تجربة مُتّصلة منذ الدورة الأولى التى شهدت نموذج محاكاة مجلس الأمن، ثم نموذج محاكاة القمة العربية الأفريقية بالنسخة الثانية، ونموذج الاتحاد من أجل المتوسط بالنسخة الثالثة. وكلها فعاليات لا تؤكد فقط عُمق الحدث واتصاله بمجريات السياسة والعلاقات الدولية، وإنما تُوطِّد اتصاله المباشر بتلك المؤسَّسات، وتضع الشباب فى القلب من منظومة الإدارة الإقليمية والعالمية.
انعقاد المنتدى فى هذا الظرف تحدٍّ كبير، واهتمام الشباب من كل العالم ومُبادرتهم بالتقدُّم للمشاركة شهادة إيجابية، تُؤكد الثقة فى تلك المنصَّة، والاطمئنان إلى كفاءة المنظومة والقائمين عليها. إقبال كبير على مدى شهر كامل، ثمَّ تمديد لموعد التقديم من أجل استيعاب كل الراغبين. نصف المليون تقدّموا مُتطلِّعين إلى الفوز بفرصة الحضور والمشاركة، بينما يرون بلدانهم تُجفِّف التجمعات وتُغلق أبوابها، حتى مع الاستعداد للاحتفال بالعام الجديد. تلك الحالة لا يُمكن التعامل معها من السطح، دون استقراء لدلالاتها المُهمَّة فيما يخص السُمعة الدولية للحدث، والصورة الإيجابية التى يحملها المُتقدِّمون عن مصر، والثقة المُتوفِّرة تجاه بلدنا، بينما قد لا يشعر بعضهم بالثقة نفسها فى بلدانهم.
إجراءات عديدة أُعلنت فيما يخص تنظيم الحدث الضخم، منها ضبط وتحديد الأعداد مُراعاة للظرف الراهن، وإخضاع الضيوف لفحص (PCR) يومى، مع وضع قواعد للتباعد الاجتماعى. وإلى جانب الثقة فى الإجراءات، فإن تجارب الدورات السابقة تؤكد فاعلية الإدارة والتنظيم، وتُبشِّر بنجاح الحدث والعبور به إلى محطة جديدة من الذيوع والتأثير. وفضلاً عن ترسيخها لمكانة المنتدى ودفعه نحو مزيد من الحضور إقليميًّا ودوليًّا، فإنها تُرسِّخ مكانة مصر الناهضة، بوصفها بلدًا فاعلاً فى محيطه، وقادرًا على إدارة تحدِّياته، ومُتفوّقًا فى إحراز نجاحات ومكاسب ربما يعجز عنها من يفوقونه قُدرةً ووفرة، من دول وأسواق لديها إمكانات مالية ولوجستية ضخمة، وتعيش معاناة غير مسبوقة تحت ضغط الجائحة.
سجَّلنا نموًّا إيجابيًّا وسط محيط من الاقتصادات المنكمشة، ولدينا مُعدَّل مُطمئن للاستثمارات الوافدة، وسياسة نقدية فعّالة فى ضبط سوق الصرف، وهبوط مُنتظم فى منحنى البطالة والتضخم وعجز الموازنة وميزان المدفوعات ومُؤشِّرات الدَّين إلى الناتج. مقابل ذلك نُحافظ على مستويات قياسية فى مشروعات البنية التحتية، وبرامج الهيكلة والتحديث والتحوّل الرقمى وتوطين الصناعات المتقدمة، ولا نغفل الأبعاد الاجتماعية والمعيشة وتحسين أوضاع الفئات الأولى بالرعاية. إجمالاً، أحسنت مصر إدارة أزمة كورونا منذ لحظتها الأولى. يتجلَّى ذلك واضحًا فى أمور وجوانب عديدة، منها إحكام السيطرة على الحالة الوبائية، وتوفير اللقاحات ولوجستيات الرعاية الصحية، وضبط السوق وصيانة استقرار الاقتصاد، بمساندة القطاعات المُتضرِّرة وإنعاش الأنشطة الحاملة للنموّ، وضخّ مُخصَّصات مالية ضخمة لبرامج التنمية والرعاية الاجتماعية والمشروعات القومية، وأخيرًا التعافى جزئيًّا واستعادة مسار النموّ الإيجابى المُستقر. لكن ليس أدلّ على تلك الكفاءة الإدارية من انتظام دولاب الحياة الطبيعية، عبر مئات المحافل والفعاليات والاحتفالات، من موكب المومياوات لطريق الكباش لافتتاحات الصعيد وغيرها، وصولاً إلى منتدى شباب العالم، بوصفه تلخيصًا لعامين من التحدّيات، وتعبيرًا واضحًا ومُباشرًا عن استتباب الأوضاع، ووداعًا لعام من الفعل الجاد فى مجالات عديدة، واستقبالاً لعام جديد نتمنَّاه أكثر جدّية وإيجابية لنا وللآخرين. وها نحن نستعد لاستقبال ضيوف من أرجاء الأرض، لنُطمئنهم ونطمئنّ بهم، ونحافظ على قناة اتصال وتفاعل أثبتت كفاءتها منذ انطلاقها، والأهم أننا نحتفل معهم وبهم وبالعام الجديد، احتفالاً حقيقيًّا وصادقًا، بالنيابة عن كل إخوتنا وأصدقائنا وشُركائنا فى هذا العالم.