ربما لم تكن فكرة إنشاء مدن جديدة، بالأمر الجديد تماما في دوائر السلطة المصرية منذ عقود، إلا أن الفكر كان محدودا بدرجة كبيرة، والتخطيط كان قاصرا على المناطق المحيطة بالعاصمة، بينما كان الهدف من تأسيسها مجرد تخفيف العبء السكانى عن قلب القاهرة، عبر توسيع العمران إلى الأطراف، عبر تشييد المباني السكانية، في الوقت الذي نقلت إليها بعض المصانع، أو ربما فروع لها، بما لا يستوعب أعداد المنتقلين إليها، ليتحول العبء السكاني، إلى ثقل مروري على الطرق المؤدية إلى العاصمة، في أوقات الذروة، حيث ينتقل العمال والموظفون من مناطقهم السكنية بالمدن "الجديدة" آنذاك، إلى مقار عملهم، وهو ما يمثل انعكاسا لحقيقة مفادها أن رؤية الدولة للمدن الجديدة، في العهود السابقة، كانت مجرد محاولة لتوسيع الرقعة السكانية، عبر توفير مساكن وخدمات، لا يمكننا أن ننكر جودة مستواها، ولكنها في حقيقة الأمر افتقدت الجانب الشمولي، في التجديد.
وهنا لا أتحدث فقط عن الجانب التنموي، والمتمثل في استغلال تلك المساحات الشاسعة من الأراضي، في تدشين المشروعات العملاقة، التي توفر فرص العمل لسكانها، وإنما عن رؤية شاملة، تحمل شعار "التجديد"، وهو الأمر الذي ارتكزت عليه الدولة المصرية في السنوات الأخيرة، عبر العديد من المسارات، منها ما هو تقليدي عبر تشييد المدن الجديدة، لتقتحم كافة المحافظات ولم تقتصر جغرافيا على العاصمة، ربما أخرها مدينة أسوان الجديدة، والتي افتتحها مؤخرا الرئيس عبد الفتاح السيسي، بالإضافة إلى مدينة العلمين الجديدة، والمنصورة الجديدة والأقصر الجديدة، وشرق بورسعيد الجديدة ناهيك عن العاصمة الإدارية، بالإضافة إلى أسيوط وقنا وتوشكى وغيرهم، في الوقت الذي وفرت فيه فرصا غير تقليدية، بهذه المدن، ليس فقط من خلال إنشاء المصانع، أو نقلها، وإنما عبر مشروعات عملاقة يمكنها استيعاب ألاف الشباب، تقوم في الأساس على التجاوب مع المعطيات الجديدة، على غرار مجمع "بنبان"، لتوليد الكهرباء من الطاقة الشمسية، بالإضافة إلى مواكبة العصر، من خلال تحويلها إلى مدن ذكية "عامرة" بالتكنولوجيا، في إدارة المرافق، ومنها مدينة العلمين الجديدة، والتي تعد صرحا تكنولوجيا هائلا.
المدن الجديدة مع اتساع نطاقها الجغرافي في كل أنحاء الجمهورية، كان في حاجة إلى شبكة طرق قوية، يمكنها الربط بين المحافظات، وهو الأمر الذى التفتت إليه الدولة، عبر مشروعات عملاقة في كافة الاتجاهات، سواء فيما يتعلق بالطرق البرية، أو تطوير شبكات المترو، بالإضافة إلى التركيز الكبير على قطاع السكك الحديدية، وهو ما يهدف إلى تسهيل عملية الانتقال من جانب، بالإضافة إلى تقديم ميزة للمستثمرين إلى الانتقال للعمل في المناطق الجديدة، مما يساهم في تعزيز دورها في العملية التنموية في المستقبل.
إلا أن "التجديد" في الرؤية التي تتبناها الدولة المصرية، ربما لم يقتصر على مشروعات "صماء"، على غرار الماضي القريب، وإنما امتد إلى الخطاب الذي تتبناه السلطة الحاكمة، وهو ما يبدو في حرص الرئيس على الحديث إلى المصريين في كافة المناسبات حول أهمية الإصلاح، رغم قسوته "المرحلية"، حيث يبقى ضرورة من أجل مستقبل أفضل، غير عابئا بحسابات أخرى، طالما كانت لها الأولوية القصوى، ليس فقط في خطابات أسلافه، أو نظرائه في الدول المحيطة، وإنما تمثل أهمية كبيرة في أعتى الدول المتقدمة، وذات الإمكانات الكبيرة، من أجل اكتساب المزيد من الشعبية، أو الاحتفاظ بكراسي السلطة لمدد إضافية.
و"تجديد" خطاب السلطة، يمثل في جوهره تغييرا مهما، طالما نادى به المصريون لسنوات، بعدما ضاقوا من سياسات، قدمت لها "الفتات" مقابل البقاء لأطول فترة ممكنة على كراسي السلطة، لنجد في المحصلة أن هذا التغيير بات مرتبطا بـ"تجديد" الرؤية الشعبية للعديد من الأمور، التي غابت عن الأذهان لعقود طويلة من الزمن، عبر حملات توعوية، تهدف إلى توضيح الحقائق بشفافية للمواطن البسيط، ليكون مدركا لأهمية ما يتحقق من إنجازات، بل وضرورة أن يكون مشاركا فيها وفخورا بها.
"التجديد" ربما كان أول ما نادت به "الجمهورية الجديدة"، في أعقاب ثورة 30 يونيو، في إطار "تجديد الخطاب الديني"، باعتباره جزءً لا يتجزأ من معركة الدولة ضد الإرهاب، والذى كان يمثل التهديد الرئيسي في تلك الفترة، إلا أن فكرة التجديد، لم تكن قاصرة في حقيقة الأمر على جانب واحد، وإنما امتدت لتشمل العديد من الأبعاد، من بينها عملية التنمية والمشروعات العملاقة، ولكن يبقى فكر المواطن هو الهدف الرئيسي الذي سعت الدولة المصرية إلى تجديده، ليتواكب مع معطيات العصر، فتحول رؤية "التجديد"، من مجرد فكرة صماء، تقوم على بناء مدن خاوية، إلى عملية من "لحم ودم"، ليكون المواطن أهم أبعادها وأهدافها.