كان مشهدا معتادا لعقود. الشوارع يُعاد ترتيبها، والمبانى وأعمدة الإنارة يُجدَّد طلاؤها، ومن تحت الأرض تطلع الأشجار خضراء مُورقة، ثم يختفى كل ذلك خلال ساعات، مع انتهاء مراسم الافتتاح أو زيارة المسؤول. الصورة الآن تختلف كثيرًا، فالأمور تحدث لأنها يجب أن تحدث، وليس من أجل زيارة أو افتتاح عابر. ثم تنتهى المراسم ويبقى الأثر.
قبل أربعة أسابيع تقريبًا، شهد الرئيس عبد الفتاح السيسى، ومعه حشد من المسؤولين والشخصيات العامة، فعاليات احتفالية "قادرون باختلاف" لذوى الهِمَم. تابعنا جميعًا برنامجًا حافلاً من الفقرات والكلمات والتكريم. كان كل ذلك تاليًا لجهود حقيقية بذلتها الإدارة على صعيد الاهتمام بتلك الفئة، والعمل على دمجها عضويًّا ضمن هياكل الدولة ومؤسَّساتها، وإيلائها أولوية حقيقية فى الرعاية والتأهيل والفرص. انتهت الاحتفالية ولم يتوقّف الاهتمام، إذ سريعًا تحقَّقت أمنيات الأطفال والشباب المشاركين، وشاهدنا زيارات للكلية الحربية وأكاديمية الشرطة، ورحلة طيران فى سماء مصر، وغير ذلك من أنشطة وإجراءات، وصولاً إلى توجيهات الرئيس اليوم باستحداث منظومة لإنشاء مجمَّع مُتكامل لإنتاج الأطراف الصناعية، مع حصر أعداد ذوى الإصابات الحركية، وتوطين تلك الصناعة المُتطوّرة ودمج معارفها ضمن مناهج الكليات العلمية.
كان المشهد الأكثر تأثيرًا وإيجابية فى احتفالية قادرون باختلاف، حضور الطفل "مهند عماد الدين" صاحب اقتراح إضافة مادة عن "احترام الآخر" ضمن المناهج التعليمية، بينما أصبحت أمنيته واقعًا، وكتابًا يحمله بين يديه. هذا المشهد يُلخِّص الحالة التى أشرت إليها. الأمر ليس ديكورًا أو بروباجندا عابرة، واهتمام الدولة والقيادة السياسية حقيقى، والعمل على تلك الملفات جاد ومُستمر، تتبعه إنجازات حقيقية يُمكن رصدها وتقييمها واستخلاص آثارها والوقوع على منافعها بين عشيَّة وضُحاها. لا فارق فى ذلك بين ملف ذوى الهمم، أو أجندة الرعاية الاجتماعية وتحسين معيشة المصريين، أو تطوير التعليم والصحة وبقية الخدمات، أو أمور الاقتصاد والاستثمار والتنمية وتعزيز كفاءة السوق ومكوّنات نموها.
الآن، تظل الأشجار واقفة لا تُغادر مكانها؛ لأنها مُتجذِّرة فى الأرض لا عائمة على السطح، ولأنها لم تُوضع اعتباطًا على وجه مشهد مُرتبك وفوضاوى كما كانت الحال. لن ترى شجرة إلا لو كانت مزروعة زراعة حقيقية، فى تُربة صالحة لنموِّها، ومن أجل أن توفِّر لبشر مُحدَّدين نصيبهم من الثمار والظل والهواء النقى. والبيوت والأعمدة لا تُطلى لأن لدينا وفرةً فى الطلاء، أو لأننا نخشى على عيون المسؤول والزائر من عشوائية الصورة، وإنما لأن طلاءها واجب وضرورة، ولأن بشرًا آخرين يحتاجون ذلك، ويحق لهم أن يروه وينعموا به.
كثيرا ما تلقى أهل الصعيد وعودًا بالمستقبل، لكنهم ظلُّوا فى أماكنهم بينما يتحرك الزمن من حولهم. وطوال سنوات أنفقنا جهد طاقتنا فى نقاشٍ عن المشكلات والمتاعب التى نعانيها، لكنها تكدَّست واستفحلت ولم يُحَلّ شىء منها. وما مرّ علينا يوم دون إعلان حلم أو أمل، لكن أحلامنا جميعا حملتها الرياح إلى حيث لا نعلم. عقود وسنوات بدت مصر كأنها جبل ثلج عائم على وجه المحيط، لا ينقص ولا يزيد، ولا يتحرك لأن كتلته الأكبر غائصة فى قاع لا نراه ولا نعرف آخره. تلك الصورة التى رافقتنا منذ أواخر سبعينيات القرن الماضى على أقل تقدير، تحركت أميالا إلى الأمام فى سبع سنوات. والحقيقة أنه لا يمكن لمنصف أو موضوعى ألا يُقرّ بحجم التغير، ولا أثر الفلسفة المغايرة، وآليات العمل والحركة التى لم نعهدها من قبل، والأهم أنه لا يمكنه التعامى عن مشهد باتت أشجاره راسخة، وطلاؤها زاهيًا ويتجدد فى الزمن، وليس شجرا هشًّا ولا ألوانا لخروجة واحدة مثل المكياج والرموش والأظافر المصطنعة.
ربما يكون الواقع صعبا، والأحلام أكبر مما حققناه حتى الآن. لكن النظر إلى البعيد من موقع الثبات ليس كالاقتراب منه خطوة بعد أخرى. فى كل يوم وحدث ستتجدد الأحلام، وعلى قدر أهل العزم تأتى العزائم كما قال المتنبى، والرئيس نفسه يقول دائما إنه ينظر إلى ما يتعين إنجازه وليس ما أنجزناه. قد يكون من الصعب الوصول إلى الصورة المثالية الكاملة، التى لا نقص فيها ولا ملاحظة عليها، لكن المهم أن تصل إلى غير ما كنت عليه أمس، وأن تتغير الصورة يوما بعد يوم ومشهدا بعد آخر. ما اعتدناه أننا كنا نعيش سنوات لا يتبدل فيها شىء، لا مكان ولا وجوه ولا حتى لغة أو أرقام، أما اليوم فما نقوله الآن لا يصلح لغد، وما نمر عليه قد لا نجده على حاله بعد ساعات. أصبحنا أمام مشهد ديناميكى موّار بالحركة، كما يليق ببلد كبير ومجتمع ينمو فى العدد والاحتياجات والهموم، ويحتاج نموا موازيا فى الفعل والأثر والإنجاز.
ونحن ندخل عاما جديدا، أرى أشجارا قديمة زرعناها وظلت فى أماكنها، وبيوتا وشوارع وأعمدة إنارة لم يتبدد طلاؤها أو يخفت نورها. وأستبشر خيرا بهذا المسار الذى لا يُجمّل الواقع، وإنما يُغيره كاملا ويُعيد بناءه على وجه جديد، وأتطلع إلى مزيد من الأشجار الوارفة، والألوان الزاهية الثابتة، حتى لا نعود إلى سياق كانت تظهر فيه الأشياء من تحت الأرض فجأة، ثم يبتلعها النسيان بعدما يعبر العابرون وتُلتَقَطُ الصور.