أجمع كثيرون على أنه الممثل القادر على التقاط اللحظة المناسبة، مقدِمًا نفسه فيها ببراعة لاعب محترف، ليوناردو دي كابريو في فيلمه الأحدث (لا تنظر إلى الأعلىDon't Look Up) إخراج آدم ماكاي، يُطيح بالنسق المعتاد لصورة النجم الوسيم، ربما أنه يمارس إحدى عاداته في اختيار أدواره، طريقته التي تحطم الوضوح والتوقع، أكاد أقول إنه التلاعب الذي يحقق لنا نوعًا من المتعة وله القدرة على الإمساك بكل تفاصيل اللعبة، بيقين أن ما يفعله هو بالفعل لعبة، مجرد تمثيل يعني.
يظهر في شخصية دكتور العالم الفلكي" راندل ميندي" بجسمه المكتنز والمتراخي، ومظهره المألوف لعالم، "بروفسير" يرتدي نظارات طبية وله تسريحة شعر ليست على موضة لا يعرفها ولا تعنيه، إضافة إلى حركته التي تشير إلى "بهدلة" عامة ظاهرية وخفية، لكننا نراه على مدار الفيلم كما لو كان يقاوم تدهور حاله، يتطلع إلى نيزك يقترب من الأرض ويهدد العالم، بينما يواجه إنكار المسئولين ومناوراتهم وغشهم، فنراه هنا في هذا الفيلم الساخر يفكك تفاصيل الشخصية شكلًا ومضمونًا، منتصرًا للممثل، مؤكدًا حرفيته، مستعيدًا ونحن معه مسيرة حافلة بأدوار متباينة، أجادها جميعها لدرجة كرسته كلاعب بارع وفطن منذ البداية.
"ليو" في صغره كان طفلًا له حكمة الكبار، من هنا تبدأ حكايته بين الأمس واليوم، حيث تستدرجه خطواته ليصنع إيقاعه الخاص من فيلم إلى آخر، برزخ متموج بالأحلام غير العصية، كان الأمر كله واعدًا منذ البداية بالنسبة لصبي ولد في السبعينيات (نوفمبر 1974) واقترب من عالم التمثيل ولم يستدر للفرار أو الخروج عن المدار، لكنه قرر أن يوسع المدى ولا يفرط في فرصة التقطها، دون أن ينشغل رأسه اليافع حينذاك بتأويلات الصعود.
سار اهتداءً بصوت داخلي يحرضه أن يتابع مرة كولد طائش ومرات كمتمرس في تقمص الشخصيات لا يعنيه "شكله الحلو" وجاذبيته الطاغية ووصفه بـ"الفتى الوسيم"، وإنما قدرته على التركيز والتماهي مع الدور ومرونته الجسدية أو "البلاستيكا" كما وصفها المخرج الروسي الكبير قسطنطين ستانسلافسكي، ربما لم يعرفه حينذاك؛ لكن من حسن حظه أنه حاول من البداية على مهل أن ينحت طريقه كممثل أتاحت له هشاشته أن يدخل التجربة ويتحمل رعدية الإنتاج السينمائي وقسوة شروطه.
فلو لم يكن ليوناردو في طريقه إلى السينما منذ البداية؛ كانت السينما ستلتقيه كالبرق أو الصاعقة، فهي نصيبه الذي تسلل تحت جلده ونصه المكتوب وواقعه وخياله وقدره الذي سار إليه اختياريًا عبر دهاليز الإعلانات التليفزيونية ثم المسلسلات قبل أن يخطو خطوته السينمائية الأولى في فيلم الخيال العلمي "المخلوقات 3"، ويبدأ انطلاقته الأكبر في فيلم "This Boy’s Life حياة هذا الفتى" مع روبرت دي نيرو المقتبس عن مذكرات توبياس وولف، ثم فيلم " What’s Eating Gilbert Grape ما الذي يضايق جيلبرت جريب؟" لعب فيه دور آرني وهو الأخ الأصغر لجيلبرت الذي قام جوني ديب بدوره وكان عليه الاعتناء بأخيه الأصغر المريض وبوالدته البدينة، والذي وضع ليوناردو على مقربة من جوائز الأوسكار في فيلم عام 1993، حيث أهّله للترشح لجائزة الأوسكار لأفضل ممثل مساعد في التاسعة عشر من عمره، فصار حينذاك فتى الأوسكار، وإن لم يفز بها سوى بعد سنوات عدة عن دوره في فيلم "The Revenant" أو العائد حسب عنوانه التجاري عربيًا، من إخراج أليخاندرو جونزاليز إيناريتو قي العام 2015، بالرغم من ترشّحه لها أكثر من مرة كممثل وكمنتج.
أثار الفيلم هذا جدلًا كبيرًا، لكنه من دون شك يبقى محطة أساسية في مسيرته، يتوغل "العائد" في العنف والدم وتشعبات مفتوحة على ألف سؤال والتباس، في صنيع قدمه المخرج المكسيكي أليخاندرو جونزاليس إناريتو، صاحب فيلمي بابل (2006) وبيردمان(2014)، وكأنه هنا ينشد حقيقة مؤلمة وهي أن الآدميين (غزاة) والحيوانات (وحوش) وحتى الطبيعة (ترسل نيازكها)، يخبرنا الفيلم الذي لا يمكن اعتباره أفضل أفلام ليوناردو، أنه لا مزاح مع الانتقام ولا نجاة من القتل وأن الجميع يمتثلون لإيقاع العنف.
نحو أكثر من ربع قرن قبل (العائد) وقائمة حافلة بأفلام منها Romeo + Juliet، المأخوذ عن رواية شكسبير الشهيرة وأخرجه باز لورمان، وحيث البدايات وبشارتها التي رشحته ليكون فيما بعد النموذج المثالي للحب والرومانسية، حين جسد جاك دوسون في الفيلم الشهير "تيتانيك" للمخرج جيمس كاميرون، ومن جاك المحب العنفواني في تيتانيك إلى إدوارد؛ دوره المثير في" Shutter Island" مع مخرجه مارتن سكورسيزي الذي أشركه في لعبة الاحتمالات التي تفاقمت مع أمستردام فالون في " Gangs of New York" .
مدّ حبل الاحتمالات بشخصية دوم كوب في " Inception" مع المخرج كريستوفر نولان، بينما استنزفت كل الاحتمالات فرانك ويليامز أباجنيل الابن في "Catch Me If You Can" للمخرج ستيفن سبيلبرج، ولا يدع مجالًا للتفاوض مع هوارد هيوز في " The Aviator"؛ فيلم آخر مع سكورسيزي، إذ يتبادلان كسر التوقعات الجاهزة ويطيل التأمل في فسيفساء حياة متسارعة وربما قد يدفع إلى التساؤل: أفي وسع الذاكرة أن تعيد شحنة من الأمل؟ ...
لعله السؤال الذي يكمل الحديث عن الطموح والأوجاع، حتى يدهشنا قليلًا من خفة الأشياء في " The Great Gatsby"، أو حين يعود مع كيت وينسليت في فيلم "Revolutionary Road"، أخرجه سام ميندز عن رواية بنفس الاسم صدرت عام 1961 للمؤلف ريتشارد ياتس، وينتقل إلى مساحة أخرى مع شخصية مختلفة هي ويليام كوستيجان في" The Departed"، سكورسيزي أيضًا في فيلم يدور في عالم الجريمة والإثارة الذي يلوح أيضًا مع شخصيته داني آرتشر في Blood” Diamond" من إدوارد زويك ، أو " J. Edgar" مع كلينت إيستوود.
يعود مع سكورسيزي بشخصية جوردان بيلفورت في " The Wolf of Wall Street" رجل الأعمال الأمريكي الذي يغوي هواجسنا في عالم متوحش؛ فيكتظ خيالك بأشباح تسرع وتبطيء ونقص في الهواء حين تشاهد تفاصيل مجهولة في عالم البورصة والمال والأمن والمباحث الفيدرالية، أو تتماهى وربما تعلق فى عالم الشهرة والأضواء مع ريك دالتون، ممثل أدوار رعاة البقر في"حدث ذات مرة في هوليوود" ﺇﺧﺮاﺝ كوينتن تارانتينو، ثم تمضي ذاكرتك تفسح مكانًا لأدوار متباينة ليس بهدف الرصد، وإنما ربما الفكرة هنا قد تنبئك أن الكون يكون فسيحًا للأحلام ويكون الفخ إن اكتفيت.