ثلاث وقائع فى غضون شهر واحد، تُوجز ما وصلت إليه وسائط التواصل الاجتماعى من فوضى وانفلات. بات الأمر أقرب إلى هوجة منظمة، وإن لم يكن كذلك بالفعل. الأزمة أن مساحة العرض السهلة سمحت لآلاف من الناس باقتحام المجال العام، ومن دون رقابة أو آليات للفرز والتقييم والمحاسبة، أصبحت الصورة مشوشة. ومن أَمِن العقوبة أساء الأدب.
قبل أسابيع انتشر مقطع فيديو لسيدة، تبين أنها سائحة أجنبية، تقف فى شُرفة شقتها المُستأجرة بملابس البحر. مؤخرا تكرر الأمر بفيديو لمُعلّمة مارست بعض طقوس البهجة فى رحلة نيلية، وأخيرا انتحرت طالبة بالثانوية الأزهرية بعدما تداول أبناء قريتها صورا مُخلّة جرى اصطناعها. فى الواقعتين الأوليين قرر شخصان ناضجان إمساك هاتفيهما والتلصص على غيرهما، ثم إذاعة وترويج نتاج هذا الانتهاك الواضح للخصوصية علنا، وكأنهما آمنان من العقاب. فى الحادثة الأخيرة المؤسفة استغل شابان صغيران إمكانات التكنولوجيا فى ابتزاز فتاة، طمعا فى الفوز بعلاقة سهلة. النتائج مختلفة فى الحالات الثلاث، لكن الوقائع شبه متطابقة.
لا يتعلق الأمر بالتقنية وتطورها فقط. ربما يرتبط فى جانب منه بالإتاحة التى ترجمت الانحرافات الشخصية إلى أفعال مباشرة تضع انتهاك الخصوصية والتلصص والابتزاز موضعا علنيا، وتُعظم الضرر الواقع على الضحايا بنقله من الخاص إلى العام. لكن غياب الوسائط – إن افترضنا إمكانية حدوثه – لن يمنع الأذى. الشخص الذى صوّر وسرّب أو اصطنع صورا وروجها، من المؤكد أنه لن يتوقف عن ممارسة تلك الأفعال حتى لو افتقد فرص نشرها وترويجها. ترتبط المشكلة بأبعاد اجتماعية وأخلاقية، تبدأ من الأسرة والتربية، وتمتد إلى السلوك ومنظومة القيم الشخصية، وبينما جسور من التصورات الاجتماعية الشائعة وبعض خطابات التطرف الدينى، التى تختلف منطلقاتها وأهدافها، لكنها تتفق فى بعض جوانبها على الوصاية وسقوط الخصوصية وقبول التشهير واستحلال حياة المخالفين لما يعتقده هؤلاء الأوصياء حقا وصوابا.
الأسر التى أنتجت الجناة فى الوقائع الثلاثة عليها مسؤوليات مباشرة، بقدر ما يقع على عاتق منصات التواصل ومستخدميها المشاركين فى رواج تلك الانحرافات. وبالمثل لا يُمكن إغفال مسؤولية ذوى الضحايا عن تطور بعض الوقائع. فى حالة الطفلة المنتحرة نموذجا يُمكن تخيّل حجم ما عانته من ضغوط وآلام، والآثار المضاعفة لنظرة الأسرة والأهل والأصدقاء والمجتمع المحيط، إلى حدٍّ ضاعف تأثير الافتراء والابتزاز عليها، وعمّق لديها الشعور بالوحدة وغياب حاضنة الدعم والاحتواء، وصولا إلى قرارها الفردى الخشن بالهروب خارج هذه الدائرة المُغلقة، التى رسمها الغرباء الظلمة، لكن ربما يكون بعض الأحباء قد أحكموا إغلاقها ولم يتركوا فيها مُتسعا للحركة الآمنة.
لا ألوم أحدا يستشعر الظلم أو المرارة، إذ لا يُمكن مهما تحلّينا بالإنصاف والموضوعية المُتخيّلة أن نشعر بما عاناه ضحايا التلصص والابتزاز، أو ما دار فى صدور وعقول ذويهم وأحبائهم. لكن لا مفر من حقيقة أن جانبا من اللوم نتقاسمه جميعا. الأهل الذين سمحوا لمنظومة قيم سائلة وغير منضبطة بملء أرواح أبنائهم، والأبناء الذين استمرأوا القفز على دوائر الآخرين وانتهاكهم، والمنصات التى ما تزال قاصرة حتى الآن عن مواجهة الانفلات والعشوائية وفوضى المحتوى من أخبار ومعلومات وصور مُضلِّلة.
غادرت السائحة، واستقالت المعلمة، وفقدت الطفلة الصغيرة حياتها. لم تنته الأمور إلى هنا للأسف، إذ ما تزال منظومة القيم المُتحكمة فى المجموع العام قائمة بحالها، وتظل وقائع التلصص والابتزاز وإفساد حياة الناس قابلة للتكرار، ومنصات التواصل مُشرعة على آخرها لهذا المحتوى، وملايين المستخدمين جاهزين لتلقفه وإعادة بثه كأنهم فى سباق. يتطلب الأمر مُعالجة اجتماعية وثقافية عاجلة، وأدوارا مُباشرة للأهل تتأسس عليها التزامات ومسؤوليات قانونية، وقدرا من السيطرة على انفلات "السوشيال ميديا" وفوضاها المفتوحة. الفترة الأخيرة شهدت تعديلات قانونية مهمة فيما يخص الجرائم الإلكترونية والتحرش والابتزاز وانتهاك الخصوصية، وسيأخذ الأمر مداه الطبيعى لحين اكتمال التفعيل، لكن تظل ساحة الاتصال بالغة الاتساع، وتدفق المحتوى المُتستر بكثافة التداول وسرية بعض الحسابات الوهمية وآليات عمل اللجان المنظمة والشركات والنشطاء المتخصصين فى التسويق عبر المنصات، أمورا تتطلب صيغة مُناسبة لحوكمة عمل تلك المنصات، وتقنين الوجود عليها وفق تسلسل يتصل بالهوية الحقيقية والبيانات الرسمية، بما يسمح برصد المخالفات وتتبعها والوصول إلى مُرتكبيها والمسؤولين عنها. يحتاج الأمر بنية رقمية وقدرات لوجستية عملاقة، لكنه جدير بالنظر ومحاولة سد تلك الثغرة.
فى الوقائع الثلاثة كانت الضحايا نساء، لكن وقائع أخرى انطوت على تغول وانتهاك واضحين لحقوق فئات أخرى: أطفال وكبار وشباب، أصحاء وذوى إعاقة، عاديين وشخصيات عامة. جميعنا مُعرضون لأن نكون مادة مُتداولة على المنصات، وأهدافا مُحتملة للتلصص أو الابتزاز. لا ضمانة للنجاة من فوضى "السوشيال ميديا" إلا بضبطها من منبعها، وإن لم تتوفر لدينا ولاية على المنصات، فبإمكاننا على الأقل أن نبسط ولايتنا على مُستخدميها. أعى حجم الضغط على الأجهزة الأمنية المختصة بجرائم التقنية، وأرصد كثيرا من جهدهم ونجاحاتهم السريعة، لكن الأمر يتجاوز حدود ذلك إلى حاجة ماسة وحقيقية لمنظومة مُبتكرة، تتعاون فيها أجهزة عديدة لصياغة هياكل أكثر وضوحا وانضباطا للحياة الافتراضية. يُمكن أن تضطلع وزارة الاتصالات بدور إلى جانب جهاز تنظيم الاتصالات وشركات الهواتف والأحوال المدنية والأجهزة الأمنية، وأن نخاطب المنصات وشركاتها بالتزاماتهم وفق مُدونة المعايير الداخلية، وبما يخص طبيعة البيئة المصرية وما يقع فى حيز الجرائم المُعاقب عليها قانونا من بعض ممارسات الشبكات ومستخدميها. هذا الأمر التزمت به الشركات فى دول أخرى، ووصل الأمر إلى تعليق حسابات الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب بادعاء ترويج معلومات مُضلّلة. ما المانع أن تمد المنصات خطوطها على استقامتها، وأن تلك المعايير بعيدا عن الجغرافيا والسياقات السياسية، وتتخذ موقفا صارمًا ومُعلنًا تجاه الانفلات والعشوائية وفوضى المحتوى وانتهاك الخصوصية وحياة الآخرين؟!
فى مقابلة مع صحيفة لا ستمبا الإيطالية، قال الروائى والفيلسوف البارز أمبرتو إيكو، إن وسائل التواصل الاجتماعى "تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون فى البارات دون أن يتسببوا بأى ضرر للمجتمع، بل كان يتم إسكاتهم فورا. أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء". لا أحب اعتماد مقولة "إيكو" عنوانا لانفلات "السوشيال ميديا"، ولا أُعمم الاتهام على الجميع؛ إذ لا تخلو تلك المنصات من أُناس مسؤولين ولديهم من الوعى والمعرفة واحترام الخصوصية ما يعصمنا الخطر ويجنبنا التجاوزات، لكن لا يُمكن إنكار أن هناك فرقا وجحافل تنطبق عليهم المقولة، وإن كانت وسائط الاتصال المُستحدثة منحتهم فرص الوجود المُنفلت، وأمَّنت لهم عبورا يسيرا على جثث الآخرين، فلسنا مُضطرين لقبول هذا أو الصمت عليه. ربما يبدأ الأمر بفضح المتلصصين والمُبتزين، وقد يصل بعضهم إلى منصة الإدانة القانونية، لكن نظل فى حاجة لقمع هذا الانفلات المُجرم، وسد ثغراته، وعدم تمكين شركات التكنولوجيا العملاقة من مُراكمة مليارات الأرباح، مقابل إراقة خصوصية وحياة وأرواح الأبرياء.