بدت النُّخَب المصرية فى أوج عجزها. كثيرون تقرَّبوا من الإخوان وآخرون تحالفوا معهم، وقلَّة ضئيلة آثرت الانزواء بعيدًا عن المواجهة. وسط هذا المشهد المشحون كان صوتها عاليًا، وحضورها طاغيًا، وصلابتها فى إعلان رأيها والتصدِّى لمُخطَّطات الجماعة تُثير الإعجاب والغيرة. حتى أشدّ المختلفين مع تهانى الجبالى لا يمكن أن يسلبها حقَّها فى تلك النقطة. وقتما تواطأ المتواطئون لم تكن معهم، وعندما قامت وانحلَّت وتجدَّدت التحالفات المشبوهة لم تسر مع السائرين.
ربّما يرى البعض مُبالغة فى القول، أو يحمله على مذهب المصريين الشائع "اذكروا محاسن موتاكم". الحقيقة أننا وإن كُنّا فى مقام موتٍ ووداع، فإننا لسنا فى مقام تجميلٍ واختلاق مزايا. المشهد قريب والوقائع مُسجَّلة والتاريخ لا يُجامِل أو ينقلب على نفسه. تحقّقت تهانى الجبالى مهنيًّا فى حاضنة المُعارضة والتيارات القومية، وارتقت أرفع الدرجات على جناح إدارة مبارك، لكنها كانت فى طليعة المُنحازين إلى الطالعين بأحلامهم العريضة فى يناير، والرافضين للسُّوقة والانتهازيين ممَّن اندسُّوا بينهم. لم تقبل من أصدقاء الناصرية القُدامى شططًا أو ارتدادًا على الأعقاب وأكلاً على موائد اللئام، ولم تُقرّ مَنْ ادَّعوا حمل لواء الثورة على صفقاتهم ومكاسبهم المُلوَّثة، وظلَّت إلى جانب الناس من يناير إلى يونيو، وقبلهما وبعدهما أيضًا.
رحلة طويلة بدأت من الشؤون القانونية بإحدى الجامعات، ثم المحاماة، ثم منصة القضاء. بينها حلقات من المنصات الرسمية والأنشطة الأهلية: فى نقابة المحاماة، واتحاد المحامين العرب، والأمم المتحدة وغيرها. وعديد المؤلفات فى أمور تتصل بالقانون والتنوير، وانحياز واضح للمرأة وحقوقها. فى كل ذلك كانت خطواتها مُستندة إلى جدارة واضحة، وإلى نشاط جادٍ وفعل ثقافى حقيقى. يُلخّص ذلك قولها فى لقاء تليفزيونى قبيل ثورة 30 يونيو: "الدور الذى لعبته إسهام مُتواضع من مواطنة مُلتزمة بوطنها، ومُدركة بوعيها أن دورها فى الجماعة الثقافية لا يسقط بالوجود فى منصب، وحاولت ممارسة ذلك بكل صرامة".
قبيل استفتاء مارس 2011، جهرت القاضية بموقفها المُستند إلى خبرة السياسة والقانون، داعية إلى بناء المؤسَّسات أوّلاً، وإلى عدم استباق التدرُّج الطبيعى بصياغات قانونية ربما تُعطّل المسيرة أو تُرجِّح كفّة على أخرى. تحقَّقت المخاوف مع سيطرة الإخوان على المجلسين التشريعيين، ثم جمعية كتابة الدستور، ثم رئاسة الدولة والحكومة. لم تتراجع "تهانى" أمام المدّ الكاسح، وظلَّت على موقفها الواضح فى قوَّة، الرافض فى صلابة، المُنحاز للوطن باعتقادٍ ووعى. تُرجِمَ هذا الموقف لاحقًا إلى لَدَدٍ فى الخصومة، دفع الجماعة لتفصيل نصٍّ خاص لاستبعادها من المحكمة الدستورية، عبر تقليص الأعضاء من تسعة عشر إلى أحد عشر فقط، والنص على عودة الباقين لوظائفهم السابقة. تندَّر البعض على الإخوان وموقفهم بتعبير "نَصّ تهانى". لكن الأمر لم يكن سُخرية عابرة من الجماعة، وإنما شهادة جادة وحقيقية لصالح المستشارة الجليلة النبيلة.
قضت تهانى الجبالى سنوات طويلة فى أروقة الحزب العربى الناصرى. صحيح أنها انقطعت عنه التزامًا بالقانون مع تعيينها فى المحكمة الدستورية، لكن الانتماء إلى الفكرة الناصرية ومبادئ ثورة يوليو لم يكن بعيدًا عن سلوكها قَطّ. ربّما كان هذا الانتماء العميق مُحرِّكًا أصيلاً وأساسيًّا لمواقفها من الإخوان، ومن كلّ تطرُّف أصولىّ وفاشيّة دينية. ظلَّت على مبدأها، لكن الآخرين غادروا المُعسكر. التفُّوا على الفكرة كما تلتفُّ أفعى حول نفسها، وعصروا المبدأ والقيمة والميراث عصرًا. هكذا رأت القاضية تيارها القديم ورموزه يتحالفون مع الإخوان فى الانتخابات البرلمانية 2011، ويدخلون أروقة المجلس تحت لافتة الجماعة التى حاربت الوطن، وحاولت اغتيال عبد الناصر، ولم تدّخر جهدًا فى مجابهة الدولة أو إنجاز كل ما يُمكن أن يقوِّض أمنها ومصالحها، بل إن أحد أبرز رموز التيار اعتذر لهم عمَّا لاقوه إبان الستينيات، أو عن "أخطاء عبد الناصر" حسب قوله، وكأنه يعترف لهم بالصواب ويُخطِّئ نفسه وذويه. كان دخولاً رخيصًا إلى حظيرة التنظيم، ارتضاه ناصريون كُثر، لكن "تهانى" لم تقبل به، ولم تغفر للأحِبَّة القُدامى جريمة الخُذلان والتواطؤ.
قد يختلف كثيرون مع بعض مواقف تهانى الجبالى، أو مع الشخصيّة بمُجملها، لكنه لن يكون إلا اختلاف الأفكار، وتفاوت الرؤى. ليس بمقدور الخصم أو العدوّ أن يطعن فى صدق انحيازها وشرف مواقفها. كان بمقدورها أن تصمت فى يناير 2011 ردًّا لجميل إدارة سياسيّة اختارتها لأرفع منصب قضائى تتولّاه امرأة، ولم يُجبرها أحدٌ على معاداة الإخوان بينما بالإمكان مُداهنتهم واللعب إلى جانبهم؛ حفاظًا على منفعة الوظيفة أو سعيًا إلى مكاسب أكبر، بل لم تكن مُضطرّةً لمواجهة النُّخَب السياسية وشبكة عصابات التمويلات والدكاكين الحقوقية وقتما انقلبوا على 30 يونيو وعارضوا خارطة الطريق. أحرزت فى كل محطَّة من تلك المحطّات خسارةً، أو ضيَّعت مكسبًا سهلاً ومُمكنًا. والمؤسف أن من تبدَّلوا وتلوَّنوا وجمعوا المغانم زايدوا عليها وعلى الآخرين، وكانوا وما يزالون مُلطَّخين بوَحلِ البجاحة، لا فارق بينهم وعصابات الإخوان ولجانها، الشامتين الآن فى وفاة سيدة، عاشت وعملت وأنتجت ونجحت وحافظت على ميثاق غليظ مع الوطن والناس، بينما كلُّ سيرتهم فشلٌ وخيانة وعَمَالة وانحطاط وشتات، وكُتبت عليهم الذِّلَّة والمَسكنة وقلَّة الاحترام وانعدامُ القبول.
امرأة هزَّت عمامةَ المُرشد، وأربكت قُطعان التنظيم. هكذا فعلت فى حياتها، واليوم تكشف رخصهم وضآلتهم بعد وفاتها. وبقدر ما قدَّمت نموذجًا مُتّسقًا مع الذات، كشفت تناقض النُّخَب السياسية المصرية، وانتهازية كثيرين منهم. من خاض معهم الانتخابات، أو وقف وراء المعزول فى فيرمونت، أو ارتحل على طائراتهم وعمل فى خدمة أبواقهم، ومن ينحازون إليهم الآن من دوائر اليسار وبعض أفَّاقى الليبرالية مدفوعة الأجر. ربما لا يُعجبك موقفٌ أو حديثٌ أو سلوكٌ، وربّما تختلف على انتماء تهانى الجبالى وأفكارها وأيديولوجيّتها كاملة، لكنها أكثر ثباتًا واحترامًا من آخرين كرهوها وحاربوها وافتروا عليها. ووقتما كانت تهزُّ عمامةَ المُرشد وجماعته، كانوا يُتسابقون على تقبيل حذائه وغسيل قدميه!