قطعت السياحةُ أشواطًا واسعةً فى مصر؛ لكن ما يزالُ المُمكن كبيرًا والمأمولُ أكبر. مُكوِّن السوق يتركَّز فى الترفيه والثقافة، وهناك فرصٌ أخرى تُتيحُها نوعيَّاتٌ لم نطرُقْها، أو نُسبغ عليها الاهتمامَ الواجب. رُبَّما يكون مشروع التجلِّى الأعظم خطوةً فى هذا الاتجاه، تترافقُ مع إحياء مسارِ العائلة المُقدَّسة، ويتبقَّى النظرُ إلى الوِجْهات الإسلاميَّة. يُمكنُ أن تكون مصرُ مُجمَّعًا إبراهيميًّا لامعًا، وسوقًا مُتكاملةً للسياحة الدينية على تنوُّع مواردِها.
ينصبُّ اهتمامٌ كبيرٌ حاليًا على مشروع التجلِّى الأعظم. عقد الرئيس السيسى اجتماعًا بالمعنيِّين لمُتابعة موقفه التنفيذى، ووجَّه بإيلائه أهميَّةً تتَّسق مع مكانه ومكانته. تلك النظرةُ تُمثّل التفاتًا نوعيًّا إلى جانبٍ غائبٍ من عناصر قوَّة السوق السياحيَّةِ وتنافسيَّتِها. لدينا البقعةُ التى تجلَّى فيها الله وفق اعتقاد الديانات الثلاث، وأكثر من عشرين محطَّةً عبرت عليها العائلةُ المُقدَّسةُ فى رحلة هروب السيدة مريم وابنها ومرافقهما من بطش هيرودس، وآلاف المراقد والمزارات والعتبات والأضرحة التى تُشكِّل مُرتكزًا ذا قداسةٍ فى اعتقاد الإبراهيميِّين جميعًا، وعبر على هذى الأرض ستَّةُ أنبياءٍ من إدريس إلى عيسى، مُرورًا بإبراهيم ويوسف وموسى وهارون. تملك مصر ما يكفى لأن تهفو إليها قلوب 4 مليارات من أهل الديانات الإبراهيميَّة، يُشكِّلون نصفَ الوجود البشرى، ولديها من المُقوّمات الأخرى ما يُؤهِّلها للرهان على النصف الآخر.
تعافتْ مصرُ من سنواتِ الاهتزاز، عندما تراوح زُوَّارها بين 3.5 مليون سائح فى حدِّهم الأدنى و11 مليونًا فى الحدِّ الأعلى، وإيراداتٍ هبطت إلى 2.5 مليار دولار أو يزيدُ قليلاً فى بعض المواسم. بحسب بياناتٍ سابقةٍ للبنك المركزى، سجَّلت السياحةُ إيرادًا تاريخيًّا فى 2019 عند 13 مليار دولار و13 مليون سائح، لتتفوَّقَ على مُؤشِّرات 2010 التى اقتربت من 15 مليون سائح أنفقوا 12.5 مليار دولار. تلك المُقارنةُ تعنى نموًّا نوعيًّا فى كفاءةِ المقاصِد، انعكس على عدد الليالى ومُعدِّل إنفاقِ السائح؛ لكنَّ نقاطَ الجذبِ لم تتغيَّر كثيرًا. لعلَّ القفزةَ تتَّصل بنموِّ الاقتصادِ وتحسُّن الدَّخلِ وتراجُع كُلفةِ السَّفرِ وارتفاع الطلبِ السياحىِّ عالميًّا، أكثرَ من اتِّصالها بالمعروضِ وتنوِّع السوقِ ورَفع قُدرتِها على إشباع احتياجاتٍ أكثرَ لفئاتٍ أوسع. هنا يتطلَّبُ الأمرُ نظرًا أعمقَ فى المسألة، من أجل فَهم الطفرةِ، وتجذيرِ أسبابِها، وضمانِ استدامةِ السوقِ وتوسُّعِها بوتيرةٍ مُستقرَّةٍ وقابلةٍ للقياسِ والاستهداف.
بحسبِ مُؤشِّراتٍ تقديريَّة، يجوبُ العالمَ نحو 100 مليون سائح سنويًّا لأسباب عقائديَّة مسيحيَّة، وأعدادُ المُسلمين قد لا تقلُّ عن ذلك، وحصَّةٌ منهم جميعًا تتقاطع اعتقادًا وثقافةً مع التراث والسرديَّات اليهوديَّة. من تلك الغابةِ كثيفةِ الأشجارِ والعابرين لا تقتنص مصرُ أيَّة نسبةٍ تقريبًا. بينما يُمكِنُ أن تكونَ قِبلةً ومَحَجًّا لملايين المُؤمنين من كل الأديان، ومُرتكَزًا إقليميًّا أساسيًّا يتكاملُ مع مكَّة والمدينةِ والنجف والقدس وبيت لحم، ويُكملُ برنامجَ زيارتها ويجتذبُ حظًّا من زُوَّارها.
رُبَّما تتجاوزُ السياحةُ الدينيَّة مستوى 10% من السوق العالميَّة. السعودية وحدها تجتذب أكثر من 20 مليونًا يُمثِّلون أغلب سوقها، وفرنسا 8 ملايين بنحو 10% من السوق، وإيطاليا 8.6 مليون بـ20%، وإسبانيا 9 ملايين بـ15%. تكامُل أضلاع المُثلَّث الإبراهيمىّ محليًّا يُمكنُ أن يمنحنَا حصَّةً من الكعكةِ العملاقة، فضلاً عن تعزيز جاذبية المقاصد لملايين بالداخل. المساجدُ والكنائسُ والمعابدُ والمَوَالدُ وأضرحة آل البيت ومراقدُ الحاخاماتِ والقساوسةِ والصحابةِ لها جميعًا رمزيَّةٌ لا تقلُّ عن نظيرتها بالخارج، ولا ينتقصُ منها أو ينافسُها وجودُ البِقاع المُقدَّسة.
بعيدًا من شقِّ الدِّيْن. سجَّل إنفاقُ السياح بوجهٍ عام، وفق تقرير لمُنظَّمة السياحة العالمية 2018، نحو 1.5 تريليون دولار، يرتفعُ إلى تريليونين بإضافة النقل الجوى، ويتضاعفُ الرقم إذا أضفنا قطاعات الخدمات والأنشطة الوسيطة المُتَّصلة بالمجال. 6 دولٍ فقط تستحوذ على 47% من الناتج العالمى للسياحة والسفر. الدول الخمس الأكبر عددًا استقبلت 374 مليون سائح، والخمسُ الأعلى عائدًا استقطبوا 466 مليار دولار. بلدٌ مثل تايلاند لا يبدو ذا مواردٍ خياليَّةٍ؛ لكنَّه اجتذب 38 مليونًا وحقَّق 63 مليار دولار حسب مؤشرات 2018. أوروبا استقطبت 712 مليون سائح، وجنوب آسيا 340 مليونًا، مقابل 130 مليونًا فقط للشرق الأوسط وأفريقيا بالكامل.
يبدو الإقليمُ بعيدًا عن مضمارٍ يُمثّل رافعةً بالغةَ الحيويَّة والأثرِ فى الإنتاج والنموِّ وإحراز طفراتٍ سريعة. السياحةُ أوَّلُ مصادر النقد الأجنبى لـ38% من العالم. تستحوذ على 40% من تجارة الخدمات و11% من الصادرات، وتصلُ نسبتُها لـ80% من صادرات بعض الدول، ولا تتجاوز لدينا 40%. تُسهم بنحو 15.9% من ناتجِنا وفق مُؤشِّرات 2019، وهو رقمٌ جيِّدٌ إقليميًّا؛ لكنَّه زهيدٌ مُقارنةً بأسواقٍ أخرى نملك القُدرة والجاهزيَّة لمُنافستها. أمَّا عربيًّا فتُسهم مصر بـ15.6% من السوق، مقابل 18.8% للإمارات و25.6% للسعودية، وتحلُّ فى المرتبة 36 عالميًّا من حيث أعداد السائحين و33 من حيث العوائد.
كلُّ وظيفةٍ سياحيَّةٍ تخلق 1.5 وظيفة فى القطاعات المُتّصلة بها. كلُّ زيادةٍ بـ1% فى الإنفاق ترفع النمو ثمانيةً وعشرين نقطةً من مئة، وكلُّ 1% فى العائدات يُضيف خمسًا وثلاثين نقطةً من مئة، بحسب دراسة لصندوق النقد العربى. تُسهمُ السياحةُ بقُرابة تسعة تريليونات دولار تمثل 10.3% من الناتج العالمى، يُتوقَّعُ ارتفاعُها إلى 11.5% و13 تريليون دولار قبل 2030، وفق تقديرات مُنظَّمة السياحة العالمية. ويُمثِّل القطاع 10% من سوق العمل، و30% من صادرات الخدمات، وثالث أكبر قطاعات التصدير بعد الوقود والمُنتجات الكيميائيَّة.
مشروعُ التجلِّى الأعظمِ يُنعش سيناءَ بكاملِها، وقد يمتدُّ إلى سواحلِ البحرِ الأحمرِ وعُمْقِ الدلتا وكثيرٍ من آثارِ الدولة القديمة. ومسارُ العائلةِ المُقدَّسة المُمتدُّ من غرب العريش إلى أسيوط والعكس، يمرُّ عبر تسعِ مُحافظاتٍ، ما يعنى قُدرةً مُدهشةً على بَرمجةِ وتسويقِ رحلةٍ استثنائيَّةٍ طويلةِ الوقت وعاليةِ القِيمة، أو حزمةِ رحلاتٍ جُزئيَّةٍ مُتنوَّعةٍ، وامتلاكِ علامةٍ تجاريَّةٍ رائجةٍ عالميًّا على ثُلث مساحةِ مصر تقريبًا، تتجاورُ مع علاماتٍ أخرى دينيَّة للمراقدِ والمَوالد والمزارات والأضرحة والمساجد والكنائس والمعابد تُغطِّى بقيَّة المعمور، وتتكامل مع العلامات الشاطئية والترفيهية والثقافية والعلاجية والتعليمية والاستكشافية وسياحة السفارى والمُغامرات والمُؤتمرات والتسوَّق. بعضُها يحتاجُ بناءً أو إعادةَ هيكلة، وبعضُها قائمٌ لا يعوزُه سوى التطوير والترويج، والتوقُّفِ عن بَيع السوق المصرية باعتبارها سلعةً واحدةً ومقصدًا وحيدًا، بينما يُمكن تجزئتُها لتملأ كلَّ الرُّفوفِ، وتُشبِعَ شتَّى صُنوف الطَّلبِ والرغباتِ والأسواقِ المُصدِّرةِ للسائحين.
أثمرَ برنامجُ الإصلاحِ الهيكلىِّ الشاملِ للسياحة، عبر إزالةِ العقبات المُعوِّقة للقطاع، وإطلاقِ مسارِ تنميةٍ شاملٍ ومُستدَام، يتضمَّن سياساتٍ مُغايرةً وآليِّاتِ عملٍ مُتطوِّرةً، ومُستهدَفاتٍ أكثرَ طُموحًا، وعمادُ ذلك تقويمُ المُؤسَّساتِ والتشريعات، وبنيةِ العمل والاستثمار، وتنشيطِ التسويق، وتأهيلِ الكوادرِ ورفع كفاءتهم، وتطوير المقاصدِ ورفع جاذبيَّتها وقُدرتها التنافسيَّة. تضافرت تلك الإجراءات مع نظرةٍ ديناميكيَّةٍ مُتطوِّرةٍ وأكثر فاعليَّةً فى مُساندة القطاع. بدءًا من تأهيل المُدن القديمة، وإطلاق حزامٍ عمرانىٍّ وتنموىٍّ جديد، وتحديث شبكات الطرق والمرافق والخدمات، ومبادرة البنك المركزى لدعم مشروعات السياحة بـ50 مليار جنيه بفائدة 10% مُتناقِصة، جرى تقليصها لاحقًا إلى 8%، مع توسعتِها لتضمَّ الائتمان من أجل تمويل الأجور.لعبت الإصلاحاتُ النقديَّة والمالية دورًا فى تعزيز جاذبية المقصد المصرى. طفراتُ التنمية فى كلِّ المجالات زادت الثقةَ فى السوق، ومثَّلت قيمةً مُضافةً ومُحفِّزةً للتعافى والنموِّ، وشجَّعت الاستثمار مع ارتفاع منسوبِ الأمانِ واستشعارِ المستثمرين أنَّ الدولةَ لن تتركهم وحدَهم فى العاصفة.
بذلنا جهودًا ملموسة، وما يزال العمل مُتَّصلاً؛ لكن الاحتياجات عديدة والفرص أضخم وأنفع من إغفالها أو التضحية بها. تغيَّرت سوق السياحة عالميًّا، وبرزت احتياجاتٌ مُغايرةٌ لما كان عليه سائح الأمس. لم يعُد الأمرُ مقصورًا على الشواطئ والسياحة الثقافيَّة، هناك فئاتٌ ضخمةٌ تخلقُ طلبًا نوعيًّا على الاستشفاء والمُغامرة والأمور الروحيَّة خارج مراكزها التقليديَّة. كل هذا يتوافر فى مصر ولدينا القدرة على إشباعه واستيعاب الطلب الضخم والمُتنامى عليه عالميًّا. دربُ البحر الأحمر ودربُ سيناء، وادى الوشواشى، الصحراء البيضاء، الصحراء السوداء، الثقبُ الأزرق، الوادى المُلوَّن، الواحات، سانت كاترين، المحميات وجزر البحر الأحمر، الآثار الغارقة، مسارات الأنبياء ومأثورات الأديان. عشراتُ النقاطِ الذهبيَّة يُمكُن أن تكون مقاصدَ عالميَّةً، وأن يُصبح كلُّ مسارٍ منها سُوقًا بمفرده، له مُحبّوه وزوّاره ومُستثمروه والشركات المُتخصِّصةُ فى تسويقه والعمل عليه.
نحتاجُ صيغةً جديدةً لإدارة الموارد السياحية. تبدأُ من برمجةِ المواسم والرحلات نوعيًّا حسب الفئات والأسواق المُستهدَفة، وابتكار وتسويق علاماتٍ خاصَّةٍ شبهِ مُستقلَّةٍ للوجهاتِ المُختلفة "Branding by Destination"، والتحوِّلِ من التركيزِ على السياحة الثقافيَّةِ والشاطئية إلى توازُنٍ محسوبٍ بين مُكوِّنات السوق وعناصرِ قوَّتها، دون إغفالِ مزايانا فى مساراتِ الاعتقاد والترفيه والتعليم والعلاج والتسوُّق والمُؤتمرات والمُغامرات وغيرها. يُمكنُ أن نكونَ مركزًا إقليميًّا للفعاليات والأحداث، ومُنتجَعًا صحيًّا يُوفِّر الاستشفاء فى جوٍّ مثالىّ، ووجهةً لمُحبِّى المُغامرة والانطلاق، أو جمهور المُولات والحفلات والكرنفالات وعروض الأزياء، ومُستقَرًّا تعليميًّا لملايين من أفريقيا والمحيط العربى، والأهم، قبلةً لملايين الإبراهيميِّين على تنوُّع أديانهم ومذاهبهم، وملايين غيرهم ممَّن يشتبكون مع هذا الملف الثرىِّ ثقافيًّا وتاريخيًّا ومعرفيًّا، حتى لو لم يكونوا من الدائنين له والمُعتقدين فيه.
لدينا سياحةٌ مُستقرِّةٌ ونامية، ونتحرَّكُ باتِّجاه إعادة بناء قطاع الضيافة بكامله على وجهٍ أكثر استدامة ومُرونة. ما تحقَّق جيِّدٌ ويُبشِّر بالخير، وما تبقَّى كثيرٌ ويستلزمُ مزيدًا من الوقت والجهد والمال والصبر. المهمُّ أنَّنا على طريقٍ قويم، لكنَّ هذا التفاؤلَ لا يمنعُ من النظرِ فى أفكارٍ وأُطروحاتٍ ومُبادراتٍ ومسالك غير تقليديَّة. لعلَّ أبرزها أن تُصبح مصرُ مُجمَّعًا إبراهيميًّا مفتوحًا، وأن يكون نصيبُنا من تُراث الأديانِ مدخلاً نوعيًّا وقوَّةً مُضافةً إلى قُدرات السوق وعناصر جذبها. نملكُ ما لا يملكُه غيرُنا مُتجاورًا فى سماحة ومُتكاملاً فى تناغُمٍ وجمال، ولدينا الوصفةُ الاجتماعيَّةُ والرُّوحيَّة الأصفى والأرحب فى صيانةِ الاعتقاد دون صدامٍ أو تغوُّلٍ على الواقع ومُقتضيات العصر. نحن أَولَى بإبراهيم ونسلِه، وقادرون على أن نستوعبَهم جميعًا ليخطوا على الأرض التى خطا عليها، ويختبروا حلاوةَ أن تُجرِّب الإيمان فى مهدِه، وأن تتنفَّس رائحةَ السماءِ والقداسةِ والتجلِّى الأعظمِ فى مصر، البلد الذى اخترعَ الإيمانَ وحفظَه ورعاه وعلَّمه للعالم.