ظلَّ الجميع يُطالبون سنوات طويلة بوضع حدٍّ أدنى للأجور.. ذهب فريقٌ إلى القضاء وحصلوا على حُكمٍ يُلزم الدولة وقتَها بذلك، لكنَّه ظلَّ مُعطّلاً عدَّة سنوات.. لم تكن مسألةُ الأجورِ حاضرةً ضمن اهتمامات الدولة لعقودٍ طويلة، ومُراجعة منحنى نموِّها خلال نصف القرن الأخير ربما تكشف خللاً فادحًا فى التوازن بين الدخل والأسعار. يجب النظر إلى قرارات الرئيس الأخيرة، وما سبقتها من قراراتٍ شبيهة، نظرةً جادةً من تلك الزاوية.. لم تعُد الدولة تعيش حالة إنكارٍ أو تبتعد عن المشهد بالتجاهل وعدم استشعار المسؤولية، بل إنها أصبحت فى موقع المُبادرة، وربما تسبق الجميعَ بأكثر من خطوة.
كانت مفاجأةً إيجابيَّةً لملايين المصريين أمس، عندما أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسى حزمةَ قراراتٍ كلَّف فيها الحكومة وأجهزةَ الدولة برفع الأجور، وإقرار علاواتٍ إضافية، ومنح مزايا لعديدٍ من الفئات. لم يكن المجتمعُ مُعتادًا على أن تُبادر الدولة بزيادة الدخولِ والعمل الجاد من أجل تحسين معيشة الناس. الوضعُ العمولُ به سابقًا أن يُطالب الموظفون ويتظلَّمون ويرفعون أصواتهم سنوات حتى يسمعهم أصحاب القرار، لكن الآن يُتَّخذ القرارُ دوريًّا وفق رؤيةٍ واضحة، برويَّةٍ وتدرُّجٍ محسوب، وعلى أرضيَّةٍ من التخطيط والمُستهدفات التنمويّة، ودون حاجة إلى تظلُّمٍ أو طلب.
أقرَّ الرئيس زيادةً بنحو 300 جنيه على الحدِّ الأدنى للأجور، الذى زاد قبل أقل من سنة بنحو 400 جنيه، سبقتهما ثلاثة قرارات مُهمَّة: تثبيت الحد الأدنى رسميًّا عند 1200 جنيه فى 2014، ثم زيادته إلى 1400 جنيه فى 2016، ثم إلى 2000 جنيه فى 2019. مُعدَّلُ الزيادة الأخير يتجاوز 12.5% مقارنةً بمستويات العام السابق، وأكثر من 125% بالقياس إلى ما قبل ثمانى سنوات من الآن. أمَّا قائمةُ المُستفيدين من الحزمة الأخيرة فتشمل نحو 6 ملايين مُوظَّفٍ ومُعلِّم، وأكثر من 40 ألفًا من أطباء الامتياز سنويًّا، وآلافًا أخرى من الأساتذة المُتفرِّغين وأعضاء هيئات التدريس ومعاونيهم بالجامعات والمراكز والهيئات البحثية، ونحو 150 ألف مُعلِّمٍ جديد من المُقرَّر تعيينُهم على مدى خمس سنوات. وإذا أضفنا 11 مليون صاحب معاشٍ، شملتهم إجراءات زيادة دوريَّة تُراعى مستويات التضخُّم، بحسب قانون المعاشات الجديد، ونحو 13 مليون عاملٍ خاص زادت رواتبهم من 700 إلى 2400 جنيه مع محاولات من المجلس القومى للأجور لشمولهم بالحدِّ الأدنى الجديد، وبالنظر إلى مُعدَّل إعالةٍ عُمريَّةٍ يُقارب 62% لكل وظيفة، فإن إجمالى المُستفيدين قد يُلامس حدودَ ثلاثة أرباع المصريين تقريبًا.
رفعُ الدَّخْلِ يتجاورُ مع إجراءاتٍ اجتماعية أخرى لا تقل أهميّة، تشمل مُبادرات مثل: "تكافل وكرامة" للدعم النقدى المُوجّه نوعيًّا، و"حياة كريمة" لتأهيل وتطوير أكثر من 4500 قرية تضمُّ نحو نصف سكان مصر بكُلفةٍ استثمارية 700 مليار جنيه، فضلاً عن مُبادرات نوعيَّة مثل "100 مليون صحة" وصحة المرأة والطفل والتغذية المدرسية وتطوير العشوائيات، وكلها تترافق مع برنامجٍ تنموىٍّ واسعٍ، يشمل المعمور المصرى بتأهيل البنية التحتيَّةِ وتحديثها، وتطوير شبكة المرافق والخدمات، وزيادة الرقعة المأهولة، وإرساء ركائز تنمويَّة جديدة بالمُدن الصناعيَّة ومُجمَّعات الطاقة والتجمُّعات العمرانية الجديدة ومشروعات الاستصلاح وتأهيل الدلتا والمناطق الزراعية القديمة. حيِّزٌ عملٍ واسعٌ من أجل التنمية الشاملة والمُستدامة، وبرامج حماية اجتماعية تُغطِّى كلَّ فئات الفقراء والأَوْلى بالرعاية، بإنفاقٍ استثمارىٍّ قياسى لم تشهده الدولة طوال تاريخها، بلغ خلال السنوات السبع الأخيرة وحدها نحو 6 تريليونات جنيه.
تملك الدولة الآن وصفةً وطنيَّةً للتنمية. تتكامل مع الشُّركاء والمؤسَّسات الدولية فيما يخصُّ الإصلاح وضبط الاختلالات، لكنها تُرتِّب أولوياتها على نحو يُلائِم السياقَ المحلى. تحرَّكنا باتِّجاه فتح السوق وإتاحة مزايا وتسهيلات للمُستثمرين تشريعيًّا وإجرائيًّا، لكنَّنا لم نتخلّ عن الوجه الاجتماعى والتزام الدولة تجاه فئات أدنى السُّلَّم الاجتماعى، والعمل من أجل انتشالهم من الفقر وسوء المعيشة. ربما تبدو الوصفة العالمية مُتحجِّرةَ القلب نسبيًّا فيما يخصُّ الدعمَ وتقييد أسعار السلع والخدمات خارج منطق التداول، لكن الدولة تصيغ مُعادلتَها الخاصة ليس فى ضوء التجارب الخارجية وحدها، وإنما بما يتناسبُ مع الحاجات الداخلية أوَّلاً، فترسم ملامحَ البلد على وجهين مُتلازمين دون تنازعٍ أو شقاقٍ: سوقٍ عصريَّةٍ تنافسيّة قادرةٍ على جذب الاستثمارات وتعزيز الإنتاج وزيادة جاذبيَّتها للمُستثمرين الماليِّين، ومُجتمعٍ أخلاقىٍّ مُحافظٍ يلتزم تجاه الناس ويُعلى قيمَ التضامن والتكافل والعدالة الاجتماعية.
المنطقُ ألا تنحاز الدولة لطرفٍ دون آخر. الفلسفة المصرية تعمل بتوازنٍ، مع اعتقادٍ راسخٍ تؤكِّده المواقف أنها لو اضطرَّت سيكون الانحياز للفقراء. هكذا أقرَّت زيادة رواتب القطاع الخاص رغم أن الأمر قد لا يُوافق هوى المستثمرين. واستعدَّت لذلك بتقوية هياكل الاقتصاد وتحفيز الإنتاج ومُؤشِّرات النموِّ، سعيًا إلى توسعةِ السوق ورفع إمكاناتها وتجذير ركائزها؛ بما يسمح بزيادة المعروض ويُعزِّز القُدرةَ على تلبية طلبٍ أكبر، من المتوقَّع أن ينمو صعودًا، ودون توقُّفٍ، مع رفع الأجور ومُضاعفة المزايا والمِنَح وتحسين معيشة ملايين الأسر والأفراد. تُؤمن الدولة بالحلول الناجعة على رؤيةٍ وبيِّنةٍ، ولا تبيع الوهمَ والمُسكِّنات. دولٌ أخرى رفعت الرواتب دون زيادةٍ فى الإنتاج، ولم تُراع خريطةَ الاستثمار وتوازنَ السياسات النقديَّة وحالةَ سُوق الصرف. هذا الأمر يعنى طباعةً على المكشوف واقتراضًا من المُستقبل دون غطاء، لكن مصر اختارت الحلَّ الأصعب، وعملت طويلاً على تقوية السوق وضمان عافيتها، حتى تكون قادرةً على تلقِّى الضربات أوَّلاً، وعلى ردِّها ثانيًا، وقبل هذا وبعده تمتلك القدرة على حمل آمال الدولة والمواطنين، ومكافأة صبرهم بمزيد من التحسُّن المُستقر، والحركة قُدمًا دون ارتباك أو خوف من الارتداد السريع للخلف.
نملك الآن اقتصادًا أكثر ثباتًا، ومُؤشِّراتٍ ماليَّةً تشهد لها مُؤسَّسات دولية راسخة، ويبصم على شهادتها مُستثمرون وشركات يعملون ويزيدون أنشطتهم فى مصر. الأسبوعان الماضيان فقط تدفَّق فيهما نحو مليار دولار استثمارات ماليَّة فى الأذون والسندات طويلة الأجل. لدينا مُعدَّلُ بطالةٍ مُحتمَل، ومستوياتُ تضخُّمٍ فى الحدود الآمنة، ومُؤشِّرات نموٍّ إيجابية ومُتصاعدة، بعدما سلكنا مسار التعافى من ضغوط كورونا قبل غيرنا. حافظنا على القطاعات الحيويَّة وأبرز مُكوّنات النموِّ من ضربات الوباء. التشييد والبناء فى أوج نشاطهما، والسياحة عادت وتتنامى، ونولِّد مزيدًا من الوظائف بوتيرةٍ مُستقرَّة. طفرة الأجور تُبشِّر بإنفاقٍ استهلاكى أكبر، ومزيدٍ من الطلب على السلع والخدمات، يعوُّض أعباءَ المستثمرين جرَّاء رفع رواتب العاملين، ويُحفِّزهم على مزيدٍ من الاستثمار والإنتاج. تنافسيَّةُ السوق والمزايا التفضيلية بالاتفاقات الخارجية وحوافز التصدير ساعدت على تسجيل مستوى قياسىٍّ بالعام الأخير، وفرصُ المستقبل أكبر وأكثر جدوى. مصر تعمل وفق فلسفةٍ عادلة ومُتوازنة للتنمية والرعاية الاجتماعية. يُمكن القول إن القرارات الأخيرة إشارةٌ مُهمَّةٌ إلى اكتمال التعافى، أو قُرب الاكتمال، وإلى تعاظُم ثقةِ الدولة فى نفسها، ويقينها بشأن صورتها الخارجية وثقة الآخرين فيها. رفع الأجور انحيازٌ اجتماعى صريح، ودفعة قويَّة لإنعاش السوق، ودليلٌ جديد على فاعليَّة الرؤية المصرية وجدارة فلسفتها فى "التنمية العادلة" واستراتيجية التدرُّج المحسوب.