فى البداية وجب القول إن فن الكتابة المتعلق بسير الآخرين فى عالمنا العربى قد لحق به تطور كبير، ففى سنوات قليلة صادفتنا عدة كتب فى هذا الشأن لها قيمتها ولها طريقتها المختلفة فى التناول، ومؤخرا انتهيت من قراءة كتاب "إبراهيم ناجي.. زيارة حميمة تأخرت كثيرا" للدكتورة سامية محرز، والصادر عن دار الشروق، ولنا معه وقفة.
إن المزج بين الذات والآخر، هو أول ما نتنبه إليه فى كتاب الدكتورة سامية محرز حفيدة إبراهيم ناجي، فأمها هى السيدة "أميرة" كبرى بنات الشاعر الراحل، وقد كانت "أميرة" فى العشرين من عمرها، مخطوبة وتستعد للزواج عندما رحل الأب فى سنة 1953 فجأة، وبعد عامين فى سنة 1955 جاءت الحفيدة التى أطلقوا عليها اسم الجدة "سامية" وبعد سنوات طويلة ترصدها الدكتورة سامية من العلاقة غير المستقرة مع سيرة الجد تقرر الذهاب فى رحلة ممتعة كان نتيجتها هذا الكتاب المهم فى فن الكتابة عن الآخر.
لا تتحرك الدكتورة سامية محرز من فراغ فى رحلتها، فهى مصحوبة بعدة عوامل أولها السيرة التى لا تموت أبدا للشاعر، ثانيا أوراق خاصة بإبراهيم ناجى كانت ضمن إرث خالتها "ضوحية" الابنة الثانية لناجي، ثالثا شبه بعيد فى الملامح أشار إليه الكاتب الراحل جمال الغيطانى، رابعا رغبة عارمة فى معرفة الجد، ذلك الحاضر دائما بصورته فى قلب البيت وبقصيدته الأشهر الأطلال، وبحكاياته الغرامية المتعددة، وقد دخلت سامية محرز الرحلة دون أن تحدد هدفا، كانت تفكر معنا، وهى تكتب، تتحرك خطوة خطوة، بدأت من نفسها من علاقتها باسم إبراهيم ناجى والشعر العربى بوجه عام فنتعرف فى البداية عن "سامية" وأسرتها وتاريخها الحاضر دائما، قبل أن تنتقل إلى بيت "تتو" بيت إبراهيم ناجى فى مصر الجديدة، فننتقل معها إلى السيدة "سامية سامى" التى ترملت فى عز شبابها وفى عنقها ثلاث بنات مصدومات من رحيل الأب المحب الذى تحمل الكثير من أجل بناته.
نعم، بعدما تنتهى من الكتاب، ستتوقف كثيرا لتأمل شخصية "ناجى" ولعل موقفه من عدم الهجرة رغم ظروفه، مثلما فعل صديقه الشاعر أحمد زكى أبو شادى، يكشف الكثير من شخصيته، إنه حالم، فى شعره وفى عمله بالطب وفى قراءاته المتعددة، وفى علاقاته بأسرته وبالأخريات، لكن الواقع لم يكن على مستوى أحلامه، لا الوظيفة ولا حتى تلقى النقاد لشعره فى البداية، ولا علاقاته الاجتماعية، لقد كان ناجى يشعر بظلم شديد جعله يعانى جدا، وحتما كان له تأثير كبير فى النهاية التى نعرفها.
تتحرك بنا سامية محرز فى اكتشافها لـ ناجى من خطاباته إلى زوجته فى فترة معينة من حياتهما (بدايات الزواج)، ومن بعدها إلى ما يمكن أن نطلق عليه شبه يومياته، ومن بعده إلى ترجماته لأغنيات شكبير، ثم جزء متعلق بما كتبه عن طبيب العائلة، ومن بعدها الرحيل المفاجئ، قبل أن تنتهى بـ روايته "زازا" وعلاقتها بالواقع.
لم تكن سامية محرز فى الكتاب تتعامل بفكرة الرصد، بل كان التعليق على الأحداث والمواقف وتحليلها وطرحها للأسئلة المناسبة، جزء من فنيات أضافت للكتاب بالفعل، كما كانت سامية محرز صادقة معنا، عندما قالت بأنها لن تنحاز لإبراهيم ناجي، لن تخفى شيئا، فبينها وبينه مسافة من المنهجية والعلمية.
لا يمكن القول إن الكتاب عن إبراهيم ناجى فقط، إنه عن أسرته خاصة بناته وعن مجتمعه وعن سامية محرز أيضا، يكفى حديثها عن "قصيدة الأطلال" عن تجربتها معها من أول استماعها لأول مرة فى سنة 1966 مرورا بمشاركتها فى أحد البرامج للحديث عن الجد، وترجمتها للقصيدة المغناة فى الجامعة الأمريكية، كل ذلك يقدم لنا سيرة "سامية" على الأقل سيرة ثقافية لها.
لقد أنصفت سامية محرز إبراهيم ناجي، عندما قدمته لنا بكل خصاله باعترافاته وميزاته وعيوبه بحالته النفسية بشعوره بالمجد والظلم، وأنصفت أسرته أيضا التى عاشت على ذكراه بمحبة ورضا