رُبَّما لم تكُن النوايا سيِّئةً وقتَها، على الأقلِّ ما يخصُّ آلافَ الغاضبين، لكنَّ الدعوةَ التى اندلعت من مجهولٍ عبر "فيس بوك" كانت بالضرورةِ تعرفُ رمزيَّةَ اليوم، ولعلَّها قصدت شيئًا من اختياره بالتحديد دون بقيَّة أيام السنة. لستُ من مُحبِّى نظريةِ المُؤامرةِ - رغمَ ما يُمكنُ أن نلمسَه منها واقعًا وتاريخًا - لكن سواء كُنتَ رافضًا أو مُتقبِّلاً لها، ليس بمقدورِك أن تنفى قصدًا غائبًا عنك. واعيًا كان أو اعتباطيًّا، فإن مُحصِّلتَه تظلُّ حُجَّةً عليه، وتأشيرًا بدرجةٍ من الدَّرجات إلى ما كان مُستهدَفًا من أصحابِه!
بعد أكثرِ من نصفِ القرنِ على واقعةٍ لا يُمكنُ اختزالُها فى تفاصيلها المُباشرةِ، ولم تعُد منذ وقوعِها تعبيرًا عن صدامٍ بين الشُّرطةِ وقوات الإنجليز فقط، أو أزمةً تخصُّ عوامَ الإسماعيلية مع "الكاريه" أو حىِّ الإفرنج فى المدينة. قرَّر طَرفٌ ما أن يسرقَ اليومَ من ذاكرةِ المُجتمع والناس. جاءت الدعوةُ إلى تظاهُراتٍ سياسيَّةٍ تشتبكُ مع سُلطةِ الُحكم وقتَها، لم يختَر الداعون إليها يومًا يخصُّ رأسَ النظام، ولا حدثًا مفصليًّا من حوادث ثلاثين عامًا شهدت ما شهدت من تغيُّراتٍ، ولا يومًا راسخًا فى تاريخ السياسة والأحزاب وحركة نضالها. وقع الاختيارُ على يومِ عيدِ الشُّرطةِ ليكونَ ساحةَ اختصامِ الدولة. بعد عقدٍ كاملٍ وغرامٍ قديمٍ لم أعُد قادرًا على رُؤية الأمرِ من السَّطحِ، ولا أستطيعُ استيعابَه خارجَ ما تتابعَ وكشفته السنواتُ اللاحقةُ من مواقف وتحالفاتٍ واشتباكاتٍ ودوائر مصالح بالداخل والخارج!
احتفلت وزارة الداخلية اليوم بعيد الشرطة، الذى يحلُّ رسميًّا بعد يومين. كان الاحتفالُ بسيطًا ومليئًا بالرموز والتفاصيل، بين إشاراتٍ للواقع وتوثيقٍ للتاريخ، وعرضٍ للتضحيات مع مساحةٍ إنسانيَّةٍ؛ لنرى جانبًا غائبًا عنَّا من الصُّورةِ، يخصُّ أُسَرًا وأطفالاً دفعوا فواتير لم يختاروها، واستفدنا بها أكثر ممَّا استفادوا. فى كلمته أكد الرئيس السيسى أن المُناسبةَ تُلخِّصُ بطولاتِ فريقٍ من أبناء مصر، حملوا من الإيمان أضعافَ ما توفَّر لهم من العتاد، وكانوا نُوَّابًا مُخلصين عن المجموع العام فى مساعى الحُرِّيَّة والاستقلال الوطنى. كُلُّ قارئٍ للتاريخ يعرفُ تفاصيلَ ما حدثَ فى الإسماعيليَّة، وسِجِلُّ البُطولةِ مفتوحٌ لمن أرادَ أن يستزيد. فهل نسى الداعى إلى تظاهرات 2011 ما قرأه؟ أَمْ أنَّه كان واعيًا تمامًا به وقاصدًا ما جرى بالضبط وهو يُطلق دعواه؟!
إذا كان الحدثُ يخصُّ صراعًا وطنيًّا مع سُلطةِ احتلالٍ، ويُجسِّدُ ثباتًا من أفرادِ أَمْنٍ عاديِّين بتسليحٍ خفيفٍ؛ رفضًا لتَرك موقعِهم أو تسليم مقرِّ المدينة لقُوَّات الإنجليز، فلماذا يُمكن أن يسعى شخصٌ أو فريقٌ إلى مَسحِ تلك الذكرى أو إهالةِ التُّرابِ عليها أو استبدالِ ذكرى جديدة بها؟! ما أراه الآن - بالنظر إلى الوراء من خارجِ الحَدَث، وبعيدًا عن منسوب التوتُّرِ الذى كُنَّا فيه، ومشاعرِ القَبول أو الرَّفض - أنَّ رغبةً خفيَّةً سبقت نُزول المُتظاهرين الغاضبين، أرادت اختصامَ الدَّولةِ فى ذاكرتها، وجهازَ الشُّرطةِ فى بُطولتِه ومحطَّةِ فخرِه. وراء الأمرِ رمزيَّةٌ سوداءُ إلى إعادة إنتاجِ مشهد الإسماعيليَّة مقلوبًا، ومحاولةٌ لمَسحِ بُطولةٍ قديمة وسَرقةِ التاريخ لصالح سرديَّةٍ جديدةٍ تستترُ بالشعبِ - الذى لا يُمكنُ أن يكون فى خُصومةٍ مع تاريخه - من أجلِ أن تحذفَ قيمةَ الفداءِ أو تُلطِّخَ سرديَّةَ الصمود فى وَجْهِ الاحتلال!
أرادَ الداعون "المجهولون" أن يكونَ الحدثُ خصمًا للدولةِ وأجهزتها. فاختاروا له أن يكون فى يومٍ يخُصُّ الدولةَ من حيث كونها فضاءً جغرافيًّا وتنظيميًّا انتزعَ استقلالَه على أرضيَّةٍ كانت "بُطولة الإسماعيليَّة" جزءًا منها، ويخصُّ الأجهزةَ من حيث كونِه توثيقًا لتضحيةٍ تجاوزت اعتبارات السياسةِ ونزاعات السُّلطةِ والحُكْم، ويخصُّ فكرةَ "المأسَسَةِ" من زاويةِ أنَّه يضربُ عمودًا راسخًا من أعمدةِ الخَيمةِ، بما يُبقِى على اشتعالٍ دائمٍ، وحالةِ عداءٍ يُمكِنُ تأجيجُها دوريًّا أو كُلَّما تطلَّب الأمرُ. وبمعنى أوضح ربَّما كان الهدفُ أن تُسحَبَ مشروعيَّةُ 25 يناير من الشُّرطةِ لصالحِ الحراكِ الجديد، ثم يُصبحُ اليومُ تجسيدًا لصدام الشارعِ مع الأجهزةِ، ومناسبةً سنويَّةً لتعطيلِ استعادةِ تلك الأجهزة أو تقويضِها، بالبِنْيَةِ أو بما تُمثِّله من أدوار. تلك الغايةُ تجلَّت واضحةً بعد 2011 وفى سنةِ حُكمِ الإخوان، وقتما طالبَ التنظيمُ وحلفاؤه وتيَّاراتٌ سياسيَّةٌ أُخرى بتقليم أظافر المُؤسَّسات، أو هيكلةِ بعضِها، وسعى آخرون لرَهْنِ البلدِ لصالحِ دوائر خارجيَّةٍ عدَّة. كان الأمرُ أقربَ إلى دفعٍ مُنتظمٍ باتِّجاه احتلالٍ ناعم. ابتكروا 25 يناير ووضعوها فى عداءٍ مُباشرٍ مع الدولة كبِنْيَةٍ لا أجهزة ولا أفراد. سعوا إلى إسقاط البُطولةِ فى مُواجهةِ الاحتلال من الذاكرةِ، ثمَّ طوَّروا الأمرَ إلى مدِّ مظلَّةِ ولايةٍ جديدةٍ/ استعمارٍ بالفعلِ والقرار، على فضاءِ الدَّولةِ ومُؤسَّساتِها!
لا تُعادى الدولةُ القائمةُ 25 يناير. الدستورُ ينصُّ على احترامِها كثورةٍ شعبيَّةٍ، والرئيسُ دائمُ الإشارةِ إليها بإجلالٍ، وأكَّد ذلك فى كلمته اليوم بالقول إنَّها "عبَّرت عن تطلُّع المصريِّين لبناءِ مُستقبلٍ جديد ينعمُ فيه جميعُ أفرادِ الشَّعبِ بسُبلِ العَيشِ الكريم"، وكُلُّ أجهزةِ الدولةِ وكوادرها التنفيذيَّةِ والسياسيَّةِ تبادلوا التهنئةَ بها جنبًا إلى جنبٍ مع عيد الشرطة. لا يُمكِنُ أن يُنظرَ للأمرِ من جانبِ المُواجهةِ إلَّا فى أذهانِ مَنْ أرادوها، ومَنْ استفادوا منها. نظرةٌ سريعةٌ على حوادثِ الماضى رُبَّما تُفصِحُ عن كثيرٍ ممَّا لم يُعبِّر عنه أصحابُه بوضوحٍ. خسرَ الشارعُ من الصِدامِ المُخترَعِ، تكبَّدتْ الدولةُ فاتورةً باهظةً ومُرهقةً من الدَّمِ والموارد، أنفقنا سنواتٍ من أجلِ إعادةِ الأُمورِ إلى نصابِها الطبيعىِّ. وآخرون وجدوا فى الأمرِ فُرصةً للحركةٍ، وتوسِعةٍ النُّفوذِ، والتغوُّلِ على المجالِ العام، وتكديسِ المنافعِ لأنفسِهم وتيَّاراتِهم، ولم تنقضِ المِحْنَةُ إلَّا بالشارعِ والأجهزةِ معًا، كما شاهدنا فى 30 يونيو!
لا أقدحُ فى شبابٍ عادىٍّ أو مُواطنين تطلَّعوا إلى مُستقبلٍ أفضل كما وصفهم الرئيسُ، لكنَّ الطريقَ إلى الجحيمِ كثيرًا ما تحفُّه النوايا الحَسَنةُ. ناهيك عن أن يكون فى مُفتتحِ هذا الطريقِ مَنْ يُزيِّنون المسارَ على وجهٍ يُناسبُ أغراضَهم، أو يسكبونَ الزيتَ على نارٍ يستهدفون منها أن يحترقَ الجميعُ إلَّا هُم. كُلُّ فردٍ تربَّح لنفسِه أو لغيرِه، وكُلُّ تيَّارٍ رَهَنَ مُقدَّراتِ البَلَدِ لقاءَ أطماعٍ خاصَّةٍ، وكُلُّ فصيلٍ تواطأ على الدَّولةِ والناسِ تنفيذًا لأجندةٍ داخليَّةٍ أو خارجيَّةٍ، وكُلُّ عَقَبةٍ وُضِعَتْ فى طريقِ مصر على مدى أكثر من عشر سنواتٍ، كُلُّها تُشيرُ إلى نوايا لم تكُنْ حَسَنةً، استلَبَتْ الناسَ بالوَهْمِ وحاولت أن تسرقَ ذاكرتَهم. اختبرنا النتيجةَ مع انفلاتِ الأوضاعِ عقب ثورة 30 يونيو، وإعلانِ الإخوانِ وحُلفائِهم حربًا مفتوحةً على الدولة، كانوا يتوهَّمون نجاحَها بعدما عملوا طويلاً على تقويضِ المنظومَةِ وإضعافِ أجنحتها. اليومَ تحتفلُ الشُّرطةُ بعيدِها، ويضعُ الرئيسُ المناسبةَ التاريخيَّةَ إلى جوارِ الأحلامِ النظيفةِ فى 25 يناير، بينما يدفعُ أصحاب الأحلامِ المشبوهةِ والنوايا السيِّئةِ فاتورةَ أفعالِهم، بالقانونِ أو انفصالِ الناسِ عنهم أو فى الشَّتاتِ الذى اختاروه أو فرضَه عليهم مُموّلوهم. يبدأُ الأمرُ من الهُويَّةِ الجامعة التى لا مجالَ للعبِ فيها أو الانقضاضِ عليها، وينتهى إلى إيمانٍ بوحدةِ المَسارِ والمَصير، وبينهما ذاكرةٌ وطنيَّةٌ يجب أن تظلَّ نَشِطَةً ومُتيقِّظةً، وقادرةً على صدِّ مُحاولاتِ السَّرقةِ والتشويه، مهما رفعَ أصحابُها من لافتاتٍ وشعاراتٍ تبدو بريئةً، بينما لا يتطلَّبُ الأمرُ سوى فحصٍ عميقٍ للراهن، أو نظرةٍ قديمةٍ فى السابقِ، لاكتشافِ حَجْمِ ما يُلطِّخُ وجهَ الشعاراتِ ورافعيها من سُوءٍ وتَشَوُّهٍ وأغراضٍ وَضِيْعَة!