لم يعُد يمرُّ يومٌ دونَ جدلٍ. إنْ لم يفرِز الواقعُ ما يستدعى ذلك، ستجد مَنْ يختلقُه ويعملُ على وضعه فى بُؤرةِ المشهد. أهلُ "السوشيال ميديا" باتوا ينتظرون القصَّةَ اليوميَّةَ الرائجةَ كما ينتظرُ المُدمنُ جرعتَه المُعتادَة. أحيانًا تطرأُ من المواقفِ والأحداثِ ما يحملُ أهميَّةً فى ذاتِه، ويفتحُ أبوابَ نقاشٍ تستجلبُ معها جدلاً وشِقاقًا واحتدامًا تشعرُ للوهلةِ الأُولى أنه لن ينتهى، قبل أن يخفُتَ وتنطفئَ نيرانُه سريعًا. وفى أحايين أُخرى تبدو الصورةُ ثابتةً ولا حراكَ فيها، ثمَّ ينفجرُ "تريند" مُفاجئٌ كأنَّ بُركانًا حملَه إلينا، أو قوَّةً خفيَّةً وقفت فى مطبخٍ لا نراه وطبَخَته على وجهٍ يُوافقُ هوى الآكلين، أو يسدُّ مَسَدَّ الجرعةِ التى يرقبُها ويتشوَّقُ إليها المُدمنون!
أنتجتْ تقنياتُ الاتِّصالِ الجديدةُ - ضمن ما أنتجت من إفرازاتٍ وآثار - نَهَمًا شديدًا لا يشبعُ ولا ينطفئُ إلى الاستهلاك. ملايينُ الناسِ يستيقظون يوميًّا وفى صدورِهم طاقةٌ نافرةٌ؛ لكنَّهم لا يعرفون إلى أىِّ اتِّجاهٍ ستخرج، ومساحاتٌ لا نهائيَّةٌ فُتِحَتْ على آخرِها، وتقبلُ أىَّ شخصٍ وأىَّ طرحٍ مهما كانت قيمتُه، فى سياقٍ يردُّنا إلى شعبويَّةٍ أُولى، وحالةٍ من ديمقراطيَّة التداول إنتاجًا وتلقِّيًا دون منهجٍ أو ضابط. هكذا يُمكن أن يصبحَ فيلمٌ عادىٌّ حدثًا مُوجِبًا للهياجِ والاحتراب، وأن يُقامَ "المُولِد" على ملابس مُمثِّلةٍ أو اسمِ مُغنٍّ أو صورةِ شخصيَّةٍ عامّة. ملايينُ الهواتف والشاشات تحتاج ما يملأ فراغَها، وإن لم تخلقه بنفسِها فرُبَّما يُخلَقُ لها!
هل يُمكنُ النظرُ إلى "التريندات"، وكلِّ موضوعٍ رائجٍ عبر منصَّاتِ التواصل الاجتماعى، باعتباره وليدَ المُصادفةِ وتوافقِ إراداتِ المجموعِ الضخمِ معًا دونَ اتِّفاقٍ أو ترتيب؟ هل يُمكنُ أن يكونَ الأمرُ اعتباطيًّا تمامًا وتحكمه ظروفُ التداولِ واهتماماتُ الأفرادِ ومَنْ مِنهم استيقظَ وأمسكَ الدفَّةَ أوَّلاً؟ رُبَّما يكونُ الأمرُ على تلك الصورةِ فعلاً، وقد يقبلُ النظرُ العميقُ رؤيةً أُخرى أو تفسيرًا مُغايرًا. ولعلَّ واقعَ الحالةِ خليطٌ بين مُستويين: توجيهٍ خارجىٍّ كاملٍ فى مواقف وأحداثٍ ما، وتوجيهٍ داخلىٍّ جزئيًّا فى مواقف وأحداثٍ أُخرى، وبينهما مساحاتٌ يُمكنُ فهمُها فى إطارِ "ثقافة القطيع" وشىءٍ من "سيكولوجيّة الجمهور".
باتَ معلومًا أنَّ فى عالمِ التسويق شركاتٍ وأفرادًا يحترفون إدارةَ الظهور عبر المنصَّات، ولديهم من القُدرةِ ما يضمن ذيوعَ نجمٍ أو إدخالَه دائرة "التريند". الأمرُ نفسُه يُمكنُ أن يتحقَّقَ فى مجالاتٍ أُخرى، وأن تملكَه دوائرُ وجماعاتٌ لديها من اللوجستيَّات والملاءةِ الماليَّةِ والمُنخرطين والمُوالين ما يكفى لفِعْلِ ذلك. قبلَ أسابيع عادَ مقطعٌ قديمٌ للقس المشلوح زكريا بطرس إلى الواجهة، كان مُستفزًّا فى محتواه وفى وقتِ بَعثِه الجديد، كأنَّ طرفًا خفيًّا يسعى إلى فتنةٍ قبلَ أسابيع من عيدِ الميلاد واحتفالات الأقباط. بتتبُّعِ الدقائق التى مرَّ عليها نحو ثماني سنواتٍ عبر البرامج والتقنيات المُساعدةِ ستجدُ أن مصدرَها الأوَّلَ حسابٌ باسم فتاةٍ، يبدو مُصطنَعًا ولا يخصُّ شخصًا حقيقيًّا، إذ إنَّ عددَ مُتابعيه ضئيلٌ جدًّا، والتفاعلَ عليه شِبهُ غائبٍ، لكنَّ المقطعَ المشبوه أُعيدَ نشرُه آلافَ المرَّات!
وقتَ وفاةِ محمّد مُرسى انفجرت موجةٌ من المنشوراتِ مُوحَّدةِ الصورةِ والمحتوى، على صفحاتٍ رياضيَّة وفنيَّة وثقافية وساخرة. عندما ظهرَ المُقاول محمد على تكرَّر الأمرُ. فى دعواتِ تظاهُرٍ ورسائل حشدٍ أطلقتها "الإخوان" خلال الأعوام الماضية دخلت على الخطِّ "جروبات وصفحات" لا شأنَ لها بالسياسة. يبدو الأمرُ مُمنهجًا وفقَ منطقٍ راسخ، قد يغيبُ عن أذهان المُستخدمين لكنَّه يحضُر بالمُمارسة وربطِ السياقات ببعضها. كلُّ ما عليك أن تُطلقَ الرسالةَ، ثمّ تُعيد بثَّها وترويجَها من خلال عناصرِك ولجانِك وصفحاتك، وتترك بقيَّةَ المهمَّةِ لثقافةِ القطيع وتأثير كُرةِ الثَّلج، التى كُلَّما تنقَّلت اجتذبت مزيدًا من الكُتلةِ والحَجْم!
فى دراسةٍ بعنوان "كيف يستخدمُ الإخوانُ ولجانُهم منصَّات التواصل"، وضع باحثو المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية يدَهم على مفاتيح عمل منظومة الدعاية الإخوانيَّة. يستندُ الأمرُ إلى شبكةٍ واسعةٍ من مراكز الاتِّصال، يتجاورُ فيها التقليدىُّ مع المُستحدَث، بين قنواتٍ ومواقع إخباريَّةٍ ووسائط اجتماعيَّة، وتتنوَّعُ أشكالُ المُحتوى والرهاناتُ المُعلَّقةُ على الوجوه حسبَ ثِقَلِها ودورِها ومدى قُربِها من التنظيم. عِمادُ إدارة الجماعة لوُجودِها الإعلامىِّ تقسيمُ الأدوارِ بين ثلاثةِ أجنحةٍ: المنصَّاتِ الرسميًّةِ المُمثِّلةِ للتنظيمِ وقادته، والقنواتِ القريبةِ من الجماعةِ دونَ صبغةٍ رسميَّةٍ، ودوائرِ الحُلفاء والمُوالين ومن يضطلعون بمهمَّةِ الوَسيط. الرسائل نفسُها تتوزَّع بين المُباشرة العدائيَّة للدولةِ مع تنزيه الجماعةِ، ومساحةِ النَّقدِ السياسىِّ باستهدافٍ للإدارة دون تسويقٍ مُباشرٍ للإخوان، وأخيرًا مستوى النفاذ إلى دوائرِ الرَّافضين للتنظيم جِذريًّا من خلال خطاباتِ التوافقِ ودعوات الحوار التى يُطلقُها ليبراليُّون ويساريُّون من أرضيَّةِ انتقادٍ لسُلطةِ الحُكم بالدَّاخلِ، وحيادٍ تجاهَ هياكلِ الإخوان وقادتِهم ومجموعاتِهم، حتى المُتطرِّف والعنيف والمُتورِّط منها فى دمٍ وإرهاب!
وضعت الجماعةُ قديمًا كلَّ بيضِها فى سلَّةٍ واحدةٍ، فخسرت ولم تُحقِّق أهدافَها. تحديدًا من الصدام مع دولة يوليو فى ستينيَّات القرنِ الماضى، وما تَبِعَه من تفكُّكٍ لحلقاتِ القوَّةِ وشَتاتٍ للكوادر، قرَّرت الجماعةُ أن تخرجَ على المجتمع بوجوهٍ عِدَّة. وصلنا فى مرحلةٍ إلى أن لهم حِزبًا رسميًّا وخمسةَ أحزابٍ بالوكالة، ترشَّحوا للرِّئاسةِ باثنين ظاهرَين وثلاثةٍ من وراء ستار، امتلكوا منصَّاتٍ إعلاميَّةً واضحةً وأضعافَها من خلالِ وُسطاءٍ ومُقاولى باطِن. وبالمنطقِ نفسِه ربما يبدو للناسِ أنَّهم يتحرَّكون فى غابةِ "السوشيال ميديا" أفرادًا، بينما فى الحقيقةِ يسيرُ التنظيمُ أفواجًا مُنظَّمةً فى صُورةِ لجانٍ ومجموعاتٍ نوعيَّةٍ وصفحاتٍ مُوجَّهةٍ ومنصَّاتٍ وخُطوطِ إنتاج مُحتوى بأكثر من شكلٍ ونكهةٍ وغاية.
رُبَّما تنشأُ بعض "التريندات" عفويًّا؛ لأنَّ صفحةً كبيرةً أو حفنةَ أصدقاءٍ بادروا بإثارةِ الأمرِ وترويجِه وإعادةِ بثِّه. وقد تنشأُ غيرُها لأنَّ شركةً قرَّرت الترويجَ لنجمٍ أو عملٍ فنىٍّ، أو استهدافِ آخرين، وبينهما هناك مرَّاتٌ أُخرى تخصُّ لجانًا ومجموعاتٍ تعمل بالمنطق نفسه. قد يفترض البعض أن "الإخوان" لن يعنيهم فيلمٌ أو ملابسُ مُمثِّلةٍ، ومن أسفٍ أن فى ذلك جهلاً باستراتيجيَّة التنظيم ومنطق إدارته لأذرعه، إذ يُبقى صفحاتِه المُستترةَ على حالها، ويُعمِّقُ حضورَها ضمن اهتمامات المُتلقِّين بمعارك ساخنةٍ فى مجالاتها، كما تفعل صفحات تحمل أسماء أنديةٍ جماهيريَّةٍ أو مشاهير أو عناوين تنمية بشريَّة، وضمن تلك الرسائل تُعيد توجيه المُستخدمين فكريًّا أو عاطفيًّا، وتظلُّ جاهزةً إلى حين أن يُطلَب منها النشاطُ فى حملةٍ أو معركة. المؤكَّدُ أن "تريندات" كثيرةً لم تكُن مُوجَّهةً، أو نشأت عَرَضًا وجرى توجيهُها لاحقًا، لكنَّ هذا لا يمنعُ الجَزمَ بأنَّ غيرَها يُدارُ منذ بدايته، بل يُطلَق لأغراضٍ مقصودةٍ سَلَفًا، ويتكفَّل "القطيع" ومُحبّو كُرات الثلجِ بإدارةِ ماكينةِ الذِّيوعِ والبروباجندا إلى آخرها. أصبحنا نسكُن كوكبًا مصنوعًا فى أغلب تفاصيله وأدواته، وللأسف يتصوَّرُ كثيرون من السكان أنفسَهم فاعلين فى المشهد، بينما فى الحقيقةِ ليسوا إلَّا أدوات تُكمِل اللعبةَ، تمامًا كما كانت مأساة جيم كارى فى فيلمه الشهير the truman show.