ساعة زمن مع المخرج علي بدرخان، قضيناها أنا والصديق الناقد السوداني خالد علي، في مركزه السينمائي بحي الدقي، هي الساعة المشحونة بمشوار حافل لمخرج صنع سينما باهرة، مترعة بالتجديد والتنوع، على الرغم من قلة عدد أفلامه التي لا تتجاوز عشرة أفلام روائية طويلة تقريبًا، إضافة إلى أفلامه التسجيلية وعمله كمساعد لمخرجين كبار في مقدمتهم والده المخرج الكبير أحمد بدرخان وكذلك يوسف شاهين وشادي عبد السلام.
جلسنا أمام واحد من رجال السينما لم يتهاون في أحلامه، قد تختلف معه في موقف فكري ما، لكن لا تستطيع إلا أن تحترم جديته وحرصه على الإتقان.. نعم أفلامه عددها أقل من توقعات متابعيه، لأنها تبدو أكثر بحضورها العميق على كافة مستويات العملية الفنية، ما أعنيه هو نجاحها في الإمساك بطرفي المعادلة: الموضوع والصورة، نفهم من ذلك أنه مخرج يتأنى في صنعه ولا يقف عند لون واحد، ولا يلتزم بمسار ثابت، بل لديه تصنيفات متعددة ما بين الاجتماعي (الحب الذي كان/ أول أفلامه عام 1973) أو (أهل القمة/ 1981) والكوميدي (شيلني وأشيلك / 1977) والسياسي (الكرنك / 1975) والموسيقي (شفيقة ومتولي / 1978) والمأخوذ عن نصوص أدبية (الجوع / 1986) وغيرها من أفلام حملت دلالات إنارة كثيرة في السينما والمجتمع.
من الطبيعي إذن أن تكون ساعة بمعيته، مشحونة بالتفاصيل والأسئلة حول رحلته التي نقلت فيها كاميرته بعض حياتنا الحقيقية، من الطبيعي أن نرى أنفسنا في مراياه، وندرك انعكاس وجوهنا المتعبة ووحدة أجسادنا، وربما وهم ما إن ضرب صميمنا الإنساني، من الطبيعي أن أتفهم تعلق خالد علي بأفلامه، وهو جزء من غرامه بالسينما المصرية عمومًا ذكره في كتابه (the cinema clinic) الذي ذكر فيه ارتباطه بالسينما المصرية منذ طفولته، سواء في أفلام حرصت أسرته أن يشاهدها في صالات الخرطوم، أو في القاهرة أثناء زياراتهم المتعددة، وذلك ما عبر عنه بوضوح في حواره وأسئلته التي كانت تتلمس الجمال الكامن في أفلام علي بدرخان، وفي الحكاية المؤثرة التي تنقلها.
جاء خالد علي من لندن لحضور فعاليات الدورة الرابعة من ملتقى ميدفست مصر 2022، وكان مستهدفًا زيارة علي بدرخان، أحد رموز السينما المصرية وأحد علامات شغفه السينمائي الذي جعله يمارس النقد السينمائي بجواره عمله كطبيب، ربما كانت السينما سببًا في أن يستهدي إلى نفسه وتنضج معرفته بوجدانه، وربما كانت أفلام بدرخان من أسباب اكتشاف الروح ومواطئ الوجع والفرح، ولعلها كانت إشارة الانطلاق والتخلي عن التلعثم والكسل في الحياة.
بالنسبة لي علمتني السينما ألا أكون مهووسة بالكمال، فهذا أمر قاتل للروح وطارد للفرح وضد الطبيعة، ورتبت لي الصدفة أن يكون فيلم (الجوع) الذي أخرجه علي بدرخان في العام 1986، هو مفتاح دخولي عالم كتابة النقد السينمائي.. "الجوع" هو الملحمة الأشمل لأفلام الفتوات، فتوات قدمتهم السينما المصرية منذ أكثر من أربعين عامًا ـ في مرحلة الثمانينيات تحديدًا ـ نقلًا عن أعمال أديبنا الكبير نجيب محفوظ وخاصة "الحرافيش"، وأفلام الفتوات هي ملمح مميز تفردت به السينما المصرية دون سواها، بحيث يمكن أن نقول باطمئنان تام أن هذا النوع لم تقدمه سينما أخرى في أي مكان بالعالم، إنها جزء أصيل من واقعها وتاريخها لا يجوز أن تقدمه سينما أخرى.
عندما قدم علي بدرخان (الجوع) في العام 1986، كنت لاأزال طالبة صغيرة في المدرسة تحلم بمستقبل أكبر من سنوات عمرها، وقرأت في تلك الفترة مقالًا للناقد الكبير علي أبو شادي تعلقت من خلاله بالسينما كأداة مهمة من أدوات النضال الاجتماعي والثقافي، يومها لم أكن قد شاهدت الفيلم في السينما، وربما شاهدته بعد ذلك بسنوات عبر أشرطة الفيديو لكن مقال أبو شادي ظل طوال الوقت هو مفتاح الفيلم، بل ومفتاح اهتمامي بالسينما وعالمها.
"الجوع" من جواهر السينما المصرية، هو ملحمة تاريخية وفنية تناولت عالم الفتوات وغاصت في تفاصيله، بوعي كامل لهذا العالم وماهية وجوده في مرحلة ما داخل المجتمع المصري، إعجابي بالفيلم ينبع عن جدية علي بدرخان الذي صنع أبجديته الخاصة في هذا الفيلم.
بعد خمس سنوات فقط من الاحتلال الإنجليزي لمصر تبدأ أحداث فيلم "الجوع" للمخرج علي بدرخان، من دون أن نرى أي أثر للاحتلال ولا للإنجليز، على الرغم من أن الفيلم يدور فى قلب القاهرة، العاصمة للدولة، ربما يري البعض أن هذه الملاحظة انتقاص من الفيلم أو تسجيل لمأخذ من المآخذ على مخرجه، لكن هذا التصور بعيد عما قصدته.. فهذه الملاحظة من وجهة نظري تشير إلى أن بدرخان وشريكيه في كتابة السيناريو والحوار مصطفى محرم وطارق الميرغني لم يهتما أصلًا برصد الواقع التسجيلي لتلك الفترة، وبالتالي لا أرى أي ضرورة درامية للوحة التي حملت تاريخ 1887 في مقدمة الفيلم، لأن قراءتي للفيلم أوحت لي بإمكانية تجريد الزمان والمكان، فهو يعالج قضايا كبري منها السياسي الذي يتعلق بالسلطة والجماهير، والاقتصادي الذي يناقش قضايا طبقية عن العلاقة بين الأغنياء والفقراء، بالإضافة إلى قضايا اجتماعية وثقافية مثل مفاهيم الشرف والأخلاق.
على صعيد موازِ، حضرت المرأة في فيلم "الجوع" بقوة، فقد لعبت أكثر من دور في تحويل المسار الدرامي للفيلم بدءًا من الأم المحبة للسيطرة والمال (سميحة توفيق) وتبعية ابنها الفتوة لها، أو الزوجة الأولى الضعيفة (سناء يونس)، والزوجة الثانية الجميلة (يسرا) التي علمته الانفتاح على عالم الثراء الفاحش.. أما زبيدة (سعاد حسني) فهي النموذج الأكثر إشراقًا في هذا الفيلم، بالرغم من أن مساحة الدور صغيرة إلا أن سعاد حسني أدته بتألق وبراعة تساوي موهبتها التي وضحت في تعبيرات عينيها وفي لفتاتها، وحتى في انتقائها لملابسها وإكسسواراتها التي تدل علي أنها مجرد بائعة بطاطا فقيرة، تجد لقمة عيشها بالكاد، تشبه بنات البلد أو كما قال عنها فرج لأخيه جابر وهو يلمح له في خبث عن معرفته بإعجابه بها: البت دي آخر جدعنة.. حرص علي بدرخان على تقديم صورة أكثر إنسانية لشخصية زبيدة التي تخفي وراء عينيها العميقتين حزنَا بلا حدود، وساعدته سعاد على ذلك، حتى أنني لما سألته عن حضور سعاد حسني في أفلامه وعن الانسجام بينهما كمخرج وكممثلة، أجاب بحسم: إنها ممثلة موهوبة وذكية والأهم مجتهدة.
ساعة زمن مع علي بدرخان بالتأكيد هي قليلة، لكنها أوجزت حالة مخرج منسجمًا مع مساره الحياتي، جاعلًا الإخراج السينمائي وسيلته الأقوى لمواجهة الدنيا وصناعة حياة على مقاس أحلامه، كما لخصت حالتي أنا والصديق خالد علي تجاه واحد من السينمائيين الذين رفعوا معايير مشاهدتنا لشاشة السينما.