قطع معرضُ الكِتاب أميالاً فى تنظيمه وهيئته؛ لكنَّ عقولَ بعض رجال هيئة الكتاب ما تزالُ قابعةً فى خِيام مدينة نصر. الطفرةُ التى تحقَّقت للحَدَث بانتقاله إلى مركز مصر للمعارض الدوليّة، أوسع وأكبر من استيعاب كثيرين من القائمين عليه، فلم يُصاحبها انتقالٌ مُكافئ فى الأنشطة والبرامج، أو سعىٌ لإحلال المعرض على أولويَّة المُهتمين، من زاويةِ أنّه منصَّةُ تنويرٍ لا مُجرَّد سوق كتب. تلك الفجوة تبدو واضحةً وجليَّةً بالنظر إلى ما جرى فى الكواليس - من جدلٍ واحتدامٍ وصراعاتٍ مكتومةٍ - بشأن مُؤتمر مواجهة جرائم الإخوان، ودورته الأولى تحت عنوان "انتصار الهُويَّة"!
المؤتمرُ اقترحته دارُ نشرٍ خاصّةٌ ولم يكُن مُبادرةً من الهيئة، وكان مُخطَّطًا فى البداية أن تُغطِّى فعالياتُه ستَّةَ أيّامٍ من الجدول، أى نصف زمن المعرض تقريبًا. لاحقًا تقلَّص العددُ إلى ثلاثة أيام، ثم ضُغِطت الفعالياتُ فى يومٍ واحد. المُفارقة أنه حُذفَ من البرنامج المطبوع فى نسخته الأولى التى عُرضت على رئيس الوزراء ووزيرة الثقافة يومَ الافتتاح، ثمَّ أُضيفَ للطبعة التالية التى خرجت من المطبعة فجر الجمعة. حتى تلك اللحظة يبدو أن الهيئةَ تبنَّت الحدثَ استشعارًا للحَرَج، وليس عن قناعةٍ حقيقيَّة!
كُنتُ قد تناولتُ الأمرَ فى مقالى أمس، وأُثيرَ جدلٌ واسعٌ فى أروقة المعرض وبين كوادر الهيئة على خلفيَّة ما كتبتُ، فضلاً عن اتِّصالات عديدة تلقَّيتُها كان عنوانها الدهشة والاستغراب من المشهد، وما يلُفُّه من ارتباكٍ وغموض. من هنا وجدتُ السياقَ يستلزمُ مُقاربةً أخرى، انطلاقًا ممَّا يتوافر لدىَّ من معلومات وتفاصيل عن معارك الكواليس، وسعيًا إلى إثارة أسئلةٍ تزحم ذهنى، وتُضاف إلى تساؤلاتٍ أُخرى تُخربشُ أذهانَ كُلِّ من اقترب ورأى وتوجَّسَ من صراعاتٍ مكتومةٍ، بعضها أنتجته تحزُّبات ودوائرُ مُغلقةٌ وحساباتٌ ومنافعُ شخصيَّة، وكثيرٌ منها كان نتاج الصُّدفة والعشوائيَّة وغياب الرؤية وفَقر الخيال، أو المُواءمة انعدام الجرأة فى الفعل، ورُبَّما ما لا نعلمُه أو نراه من اتِّفاقاتٍ جرت أسفل الطاولة.. لا أنطلقُ فى تلك المُقاربةِ إلَّا من إخلاصٍ عميق للمعرض، ومحبَّةٍ خالصة للقائمين عليه، ورغبةٍ صادقة فى أن نُوسَّع للأبيض مساحاتٍ إضافية، على حساب الأسود والرمادىّ. إذ لا أُطيقُ أهلَ السَّواد، ولا أُحبُّ لمن أُحبّهم أن يُحسَبوا على الرمادِّيّين!
ما حدث بشأنِ مُؤتمر مواجهة جرائم الإخوان تفصيليًّا، أن قادةَ الهيئة رفضوا التجاوب مع الفكرة، ثمّ حاولوا عرقلتَها، ووقَّع نائب رئيسها الدكتور أحمد بهى الدين على مُسوَّدة البرنامج المطبوع بحذفها. كان تبريرُه للأمرِ أن المؤتمرَ مُجرَّد مُناورة من دار النشر الخاصّة، ولعبة تستهدف انتخابات التجديد النصفى لاتحاد الناشرين. المُثير أن الموعدَ المُحدَّد للانتخابات كان الخميس 27 يناير، بينما تبدأ فعاليات المؤتمر الجمعة. هكذا تسقط الحجَّة المُضحكة، إذ لا يُمكن أن يُستهدَفَ التأثيرُ على الانتخابات بحدثٍ تالٍ لها، ولم نكن نعلم بعد - نحن أو الدكتور بهىّ - بعد هل يكتملُ النِّصابُ أم تُؤجَّل جمعيَّة الاتحاد، فضلاً عن أنه كان بإمكان الهيئة أن تتبنَّى المؤتمرَ بكامله، أو تضعه تحت ولايتها الفرديَّة، ويظلّ فى حيِّز النشاط الثقافىّ والتنويرىّ المُحصِّن للمُجتمع والداعم للدولة فى معركتها مع الإرهاب، من دون شركاء وناشرين، لا سيما أنه يخصُّ جرائمَ إرهابيَّةً لفصيلٍ لا يختلفُ اثنان فى مصر على إجرامه وإرهابه!
الخطيرُ، أن نظرةَ نائب رئيس الهيئة إلى المؤتمر بوصفه لُعبةَ انتخابات، تُشير إلى قناعةٍ أو يقينٍ لديه بأن اتحاد الناشرين يُهيمن عليه المُنتمون للإخوان أو العاملون فى خدمتهم. هنا يجوز السؤال عمَّا اضطلع به الدكتور بهى الدين، أو رئيس الهيئة الدكتور هيثم الحاج على نفسه، لحصار قنوات الإخوان الخلفيَّةِ وتجفيف فُرص نفاذهم إلى المعرض. والأسوأ الذى يُمكن افتراضه، أنه حتى لو كان المؤتمرُ دعايةً انتخابيَّةً ضدَّ الإخوان، فإن رفضَه يعنى بالضرورة الدعايةَ الإيجابيَّةَ لهم، فهل كان صاحبُ قرار الرفض يقصد هذا المقصدَ الغشوم؟!
كان مُقرَّرًا أن يقولَ رئيسُ الهيئةِ كلمةً فى افتتاح المُؤتمر، لكنَّه لم يحضر من الأساس، وكذلك نائبه الدكتور أحمد بهى الدين، وكل قيادات الهيئة ودورة المعرض وبرنامجه الثقافى. بدا كأنَّ الهيئةَ تعتبرُ المُؤتمر لقيطًا، أو عارًا لا يجب الاقتراب منه، أو أنها تتجنَّبُ أن يُشاع عنها لا سمح الله أنها دعمته، أو أن كوادرها يضعون روابطهم ببعض وجوه اتِّحاد الناشرين فوق الهيئة والمعرض، وفوق التزامهم باستراتيجيَّة الدولة وخُطط مُواجهة الإرهاب. لا أحبُّ افتراضَ السوء فعلاً، لكنّنى فى الوقت ذاته لا أجدُ مُبرِّرًا مُقنعًا، ولا أستطيعُ حتى الآن استيعاب الموقف وبواعثه!
المفصل المُهمّ وسط هذا اللغط وقصقصة أجنحة الفكرة، وحذفها من البرنامج ثمّ إضافتها لاحقًا. إمَّا أن يكون المؤتمرُ مقبولاً ويخدم الثقافةَ والدولة؛ فتدعمه الهيئة وتتفانى فى إخراجه بأفضل صورة، أو يكون مشبوهًا ومُضادًّا للدولة والثقافة، ووقتها يكون لِزامًا عليها التصدِّى له ومنعه. ما حدثَ أن الهيئة لم تدعمه كما يجب، ولم تمنعه أيضًا؛ وإن سعت لهذا. هل منعَها الحَرَجُ من الإلغاء؟ أم مَرَّرت حدثًا تراه سيِّئًا ومُسيئًا ويضرُّ البلد؟ أم تُراها أمسكت العصا من المُنتصف، بأن تظهرَ فى الصورة، وفى الوقت نفسه تغسل يديها منها؟! أيًّا كان الاحتمال الأصوب، فكُلُّها لا تصبُّ للأسف فى صالح المواقف المُرتبكة والرماديَّة التى غطَّت المشهد منذ بدايته!
إذا كان المُؤتمرُ لُعبةً ومُقترحوه باحثين عن مصالح شخصية. فأين المصلحةُ العامَّةُ التى أعلتها الهيئة؟ أين السلاسل والمطبوعات التى تُوثِّق جرائم الإخوان وحُلفائهم، وتُفنِّد أفكارَهم، وتُفكِّك أدبيَّاتهم وتنسف سردِّياتهم المُضلِّلة؟ أين الندوات والفعاليات التى تضعهم على طاولةِ الشَّرح والتشريح؟ وأين خُصومهم المُثقفون وشهود العيان وأُسرُ الشهداء من البرنامج الثقافى والفعاليّات؟ لا أتحدَّثُ عن الدورة الأخيرة وحدها؛ لكن تعالوا إلى برامج الدورات السابقة، تحت رئاسة الدكتور هيثم ونيابة الدكتور بهىّ، ودعونا نُحصى ما أنجزته الهيئة والمعرضُ فى هذا الشأن! الحقيقة أن دُورَ الإخوان الممنوعةَ من المعرض اليوم لم تُمنَع إلا بعد معارك إعلاميَّة واشتباكاتٍ حادَّة وتجاوزٍ شخصىٍّ فى حقِّ رئيس الهيئة، مُقابل عشرات غيرها تقف الآن فى صالات العرض بكلِّ كُتبها المشبوهة!
لم يقف الأمرُ عند عَرض الكُتب، بل استمرأ الإخوانُ الأمرَ طالبين حفلات توقيع. هل تحبُّ أن تضحك؟ إليك تلك النُكتة السخيفة! أراد الإخوانى المُتطرِّف أيمن العتوم أن يُوقِّع كُتبَه فى معرض القاهرة الدولى للكتاب، فتقدَّم لحجز 12 ساعة على 3 أيام. لجنةُ حفلات التوقيع رفضته إلى جانب دارٍ عربيَّة وعددٍ من الكُتب المُتطرِّفة. كانت حصيلتُهم الإجماليَّة نحو 62 ألف جنيه، ثار رئيس الهيئة ونائبه على اللجنة طالبَين مُبرِّرا لهذه الخسارة، واحتدم الأمرُ، ويبدو أن الحَرَج نفسَه أنقذنا من توقيع روايات "العتوم" فى ساحة معرض القاهرة. هل تُدركُ الهيئةُ أنها مُؤسَّسة غير هادفة للربح؟ وأن الدولة تدعمها بمئات الملايين من أجل أن تصونَ عقلَها وثقافتَها وهُويَّتها؟ وهل يُمكن أن نطمئنّ إلى منطقٍ لا يرى غضاضةً فى إتاحة منصَّةٍ فى قلب مصر لمن يرشقون رصاصَهم الأسودَ فى قلوبنا جميعًا؟!
مُراجعةُ النفس فضيلةٌ، أثق تمامًا فى أن الصديق العزيز هيثم الحاج على يملك منها فائضًا تُعزِّزه المودَّةُ ودماثةُ الخُلق؛ لذا أدعوه إلى أن يُراجع نفسَه، ويُراجع آليَّةَ العمل التى ما تزال حتى الآن عاجزةً عن مُواكبةِ طفرةِ المعرض الجديدة، وتحوُّلات السياق العام على المستويات كافة، وأوَّل مسارِ المُراجعة أن يُرشِّد ثقتَه فى بعض المُحيطين، وألاَّ يقبلَ التحييدَ وإعارةَ اسمه لمُعاونيه. ما حدث مع مؤتمر "مواجهة جرائم الإخوان" خطأ يا دكتور، أهمسُ فى أذنِك بالمحبَّة وحدها، لأنه لو كان مشبوهًا فقد أخطأت بتمريره، ولو كان جيِّدًا فقد أخطأت بتحجيمه، ولو لم تكُن صاحبَ القرار فقد أخطأت بثقتِك فى مَنْ يُورِِّطونك. ما قد يُضاف إلى أخطاء أخرى سمحت بنفاذ ناشرين وكُتبٍ مُتطرِّفةٍ إلى المعرض، ووجوهٍ من المُنتمين للإخوان والمحسوبين عليهم إلى البرنامج الثقافى. لا أُحبُّ أن أُلوِّث المقال بذكرهم، لكنَّك إن قارنت البرنامج ببيان تأييد المدعو علاء عبد العزيز وزير ثقافة الجماعة الإرهابيَّة ستكتشفهم بنفسك. كلُّ المحبَّة يا دكتور، وكلُّ الأمنيات المُخلصة بأن يُلهمكَ الله الصوابَ وأن تكونَ على قدر اللحظة!