خمسُ سنواتٍ مرّت على الحدث، لكنه ما يزال عالقًا فى ذهنى، ويحضرنى اليوم قبل تجدُّد المواجهة. كان مُنتخب المغرب عقدةً تاريخية للفراعنة، إذ لم نفز عليه لأكثر من ثلاثة عقود، قبل أن تنكسر العُقدة بهدف "كهربا" فى مواجهة 29 يناير 2017.
أحبُّ المغربَ بلدًا وشعبًا، ولو كان المنتخب الشقيقُ يقابل فريقًا غير مصر لشجَّعته. لكننى اليوم أحمل محبّتى على كفٍّ، والمنافسةَ الشريفةَ على الآخر. صحيحٌ أننى لن أحزن لو فاز الأشقاء، لكننى سأكون أكثر فرحًا وسرورًا لو فعلها المصريّون، وقطعوا خطوة إضافية باتجاه اللقب الأفريقى.
أرى فى أمر البطولة الحالية رمزيّةً تتجاوز فكرة إضافة لقبٍ ثامن إلى سبعةٍ سابقين. مصر التى نظّمت البطولة الماضية فى وقت حرج، وأنقذت الموقف وأهم محافل الرياضة الأفريقية خلال أسابيع، لم تُوفَّق فى المنافسة بالعام 2019، لكنها أخرجت البطولة على وجهٍ عظيمٍ حتى آخرها، وودَّعت الجميعَ بمحبَّة حقيقيَّةٍ لا ادّعاء فيها. اليوم تخوضُ مُنافسةً قد لا تكون الأفضل، من جانب حالة الفريق، أو حتى شكل البطولة العام، لكنها تتفانى كعادتها. هذا الجيل يحتاج مكافأة مُستحقَّة، والجمهور الحاشد الذى تقبَّل الخسارةَ سابقًا بنفسٍ راضيةٍ، يستحقُّ أن يفرح. مصر التى تقف فى أوج نشاطها الأفريقى، ستُتوِّجُ بهذا الفوز - لو أحرزناه إلى آخره - حُضورَها البارز فى القارة؛ لتتكامل الرياضةُ مع السياسة والاقتصاد والتنمية والعمل المشترك من أجل الأمن والاستقرار.
قبل يومين استقبل الرئيس عبد الفتاح السيسى نظيره السنغالى ماكى سال بالقاهرة، كان اللقاء مُفعمًا بالمودَّة والرسائل الإيجابية. قبلها عشرات اللقاءات بقادةٍ وفاعلين سياسيين بالقارة، داخل مصر وخارجها، وزيارات مُهمَّة، ورسائل سمراء رفعتها القيادة السياسية إلى أسماع العالم فى كلِّ المحافل: الأمم المتحدة، وتيكاد، والشراكات الأفريقية مع الصين وروسيا والمملكة المتحدة. الرئيس "سال" قال هذا بوضوح خلال المؤتمر، وشدَّد على أن "مصر صوت أفريقيا". هكذا أصبحت العلاقات المصرية الأفريقية فى كل جوانبها. تحمل مصرُ همَّ القارة وشواغلها معها أينما حلَّت، وتفتح ذراعيها للأشقاء دائمًا، وتحبُّ لهم ما تحبُّ لنفسِها. لهذا نقول إننا لن نحزن لو فاز الأشقاء، ونثقُ فى أنهم لن يحزنوا لو فُزنا.
تجاوزت الرياضة حيِّز الترفيه، وربما الصناعة أيضًا. صحيحٌ أنها تُمثّل موردًا اقتصاديا مُهمًّا، يذهب فى غالبه إلى الروابط الحاكمة للعبة عالميًّا وقارّيًّا، إلا أن مردودَ التفاعل بالملاعب يصنع ما هو أكبر بين الدول والشعوب. الحربُ الباردةُ لم تخلُ من لُطف الرياضة، وتوتر علاقات الولايات المتحدة بالصين هدّأته "دبلوماسية كرة الطاولة" أوائل سبعينيات القرن الماضى. القارة الأفريقية تُعيد الآن بناءَ نفسها داخليًّا وأمام العالم. تتلمَّس روابطها السياسية والاقتصادية، وتسعى إلى التكامل ومُعالجة عقود من الجفاء غير المفهوم. الرياضة أقوى روابط العلاقة الآن، وأكثر ربطًا بين الناس وقُدرةً على تسريع وتيرة التفاعل الشعبى، وفتح الأبواب لامتزاج الأسواق وتداخلها. وجود لاعب أو مدير فنى من بلد أفريقى لدى بلدٍ آخر، بمثابة شقِّ طريقٍ أو تدشين خطٍّ ملاحى أو إنشاء منطقةٍ لوجستية. نحتاج أن نُعزِّز هذا، بالتزامن مع إعادة رسم خريطة الطُّرق والموانئ والمناطق الصناعية والتجارية.
تملك مصر رؤية مُستقبليَّةً ناضجةً بشأن الاتصال بأفريقيا، ومزجت بفاعلية بين برنامجها للتنمية المُستدامة وخطة التنمية الأفريقية 2063، وما تزال تُحقِّق اختراقاتٍ مُهمَّةً فيما يخصُّ الروابط والعمل المشترك. شركاتنا باتت أكثر قدرة على النفاذ لأسواق عديدة، مشروعات عملاقة تُنفَّذ بشراكةٍ استراتيجية ترعاها القيادات مُباشرةً، خطوط ربط كهربائى تمتدّ وتتَّسع جنبًا إلى جنب مع خططٍ وأفكار لشق طرق وبناء جسور وسدود ومسارات نقل. قد لا تبدو كرة القدم طرفًا فى هذا الطموح النامى، لكنها فى حقيقة الأمر أداةُ عظيمةٌ يُمكن أن تخدم التنميةَ وتُسرِّعَ وتيرتَها، وكذلك بقيَّة الرياضات، ليس لأنها تربطنا بالآخرين الذين يشبهوننا ويتشاركون معنا الجغرافيا والموارد فقط، ولكن لأنها تُرسِّخ فى نفوسنا فضيلةَ المُنافسة الشريفة، وقيمَ القبول، وقبل ذلك قناعة أن هناك آخرين حولنا لهم طموحات، قد نرى أنها من حقِّنا، لكنهم يمكن أن يقتنصوها، شريطةَ أن تكون مشروعةً ومُنضبطةً بالقانون والأعراف والقواعد المعمول بها، ووقتها يكونُ علينا أن نُهنِّئهم مُبتسمين، دون وجعٍ أو ضغينة.
كلُّ المحبَّة للمغرب الشقيق. ولكل الإخوة الذين يُشبهوننا روحًا ودمًا وثقافة وتاريخا مشتركًا فى عموم القارة الأفريقية. ينتمى كلٌّ منَّا إلى بلده؛ لكننا ننتمى جميعًا إلى أفريقيا، وإلى بعضنا البعض. لدينا من القواسم والمُشتركات ما يفرض علينا التكامل، ويُبشِّرُنا بمنافع تفوق خيالَنا؛ لو وظّفنا اتِّفاقنا من أجل الإنجاز، وأحسنَّا إدارةَ اختلافاتنا من أجل تعظيم قُوَّتنا وقُدرتنا على الحركة والفعل. أفريقيا أرضُ الفُرص العظيمة، والملعبُ الذى يتأهَّب الآنَ لمُباراة المُستقبل، كما يتأهَّب ملعب أحمد أهيدجو فى العاصمة الكاميرونية ياوندى لاحتضان لقاء مصر والمغرب.