فتحت "السوشيال ميديا" بابًا واسعًا للناس أن يقولوا؛ مهما كانت كفاءةُ القائلِ وقيمةُ القَول. حتى أنَّ عوامَ المُستخدمين باتوا يُدلون بدلوهم فى أُمور الاقتصاد والسياسة والفن والأدب والرياضة، دون اعتبارٍ لمسألةِ التخصُّص، أو تقديرٍ لطبيعة ما يصُبُّون عليه رُؤاهم الشخصيَّةَ من قضايا وموضوعات. وإذا استسغنا هذا من العامَّةِ ومرَّرناه؛ لأنَّ وسيلةَ العرضِ فرضت علينا هذا، أو أنَّ الناسَ يتداولون آراءهم فى حيِّز الاستهلاك اليومىِّ العابر، فرُبَّما لا يكون مُستساغًا أن يتورَّط الفَنِّيّون والمُتخصِّصون فى المنطق نفسه، ويُمارسون الأمورَ الجادَّةَ من السَّطح، أو يُسبِغون مواقفَهم الشخصيَّةَ على ما يُثار من شُؤونٍ عامَّةٍ تتجاوز الاستهلاكَ العارضَ، أو تنطوى على جوانب رُؤيةٍ أكثر تعقيدًا ممَّا يبدو للبُسطاء الناظرين من بَعيد!
اعتدنا، وتوطَّنت نفوسُنا، على أنَّ لدينا مائةَ مليونِ مُحلِّلٍ رياضىّ. كان هذا المنطقُ شائعًا تحت سُلطةِ المقاهى والمواصلات العامَّة والشوارع وجلسات الأصدقاء، وتعمَّق واستفحلت تجلِّياته بدخول عصر التداول الواسعِ، وديمقراطيَّةِ الاتِّصال الفسيحةِ فى زمنِ المنصَّات الاجتماعية. برزت المشكلةُ وازدادت حِدَّتها، وتورَّطت فيها شخصيَّاتٌ عامَّةٌ وذَوو حيثيَّة، دفعتهم شهوةُ الحديث ونَهَمُ الذِّيوعِ وسُهولةُ الوُصولِ إلى الناسِ؛ لتحويل الجادِّ إلى هزل، والفنِّى إلى استهلاكى، والعناوين العامَّةِ العريضةِ إلى موضوعاتٍ شخصيَّةٍ. يبدو ذلك واضحًا للغاية بالنَّظرِ إلى ما يخصُّ التعاطى مع مُنتخب مصر لكُرة القَدَمِ ومُشاركته الجارية فى بُطولةِ الأُمَمِ الأفريقيَّة، وحُدودِ التناول التى لا تختلف بين المُشجِّعين العاديِّين، وكثيرين من لاعبى الكُرةِ والمُحلِّلين، الذين لا يتوافر فيهم التخصُّص فقط، بل يعرفون طبيعةَ الظَّرفِ وتحدِّياته، وخاضوه من قبل، ووقعوا تحت سَطوة الجمهورِ وغطرستِه كما يقعُ لاعبو اليوم!
قبل ساعاتٍ، نشرت صحيفةٌ كاميرونيَّةٌ نبأً مُصطنَعًا بكاملِه، عن إصابةِ محمد صلاح بفيروس كورونا، بينما لم يكن المُنتخب قد خَضَعَ لمَسحَةِ الاتِّحاد الأفريقىِّ الرسميَّةِ بعد، وكانت نتيجتُه فى المَسحةِ التى أجراها الفريق بأحدِ المعاملِ الخاصَّةِ أمسِ سلبيَّةً. لا شأن للكاميرون - البلدِ الشَّقيقِ - بهذا طبعًا؛ لكن الموقِفَ يُشيرُ إلى مُنطق تُدير من خلاله بعضُ فئات المُشجِّعين علاقتَهم بالبُطولة وسباقاتها نحو اللقب، وبينما يتأهَّبُ الأُسودُ للمُنافسةِ رياضيًّا، يرى فريقٌ منن الجمهورِ أو أهلِ الإعلامِ أنه يُمكُن دعمُهم فى المُواجهةِ بشَنِّ حَربٍ نفسيَّةٍ على المصريِّين، وإشاعةِ أكاذيب عن ارتباك صفوفِ المُنتخب، أو سُقوط أحد نجومه البارزين من قطارِ المباراة. ليس مطلوبًا بالطَّبعِ أن ندعم مُنتخبَنا بالطريقةِ نفسها، ولا أن نبتكرَ الأغاليطَ ونُروِّجها؛ ولكن على الأقل لا نكون خنجرًا فى خاصرةِ الفريق، أو عاملاً مُساعدًا لتكثيفِ الضغطِ، وإحرازِ غاياتِ الحربِ النفسيَّةِ التى ربَّما نتعرَّضُ لها الآن، وسنظلُّ قُبالتها كُلَّما صعدنا درجةً باتِّجاه الكأس!
مُنذ اللحظةِ الأُولى، تعرَّض المُنتخبُ وجهازُه الفنىٍّ لهجومٍ ضارٍ. اتُّهِم المديرُ الفنىّ البرتغالى كارلوس كيروش بضعف القدرات وغياب الرُّؤية، واتُّهِم اللاعبون بالتَّقصير، وتصدَّى كُلُّ من يفهمُ فى فنيَّات الكُرةِ ومُنافساتها، ومَنْ لا معرفةَ لديه، للحَطِّ من قَدرِ الفريقِ وتَثبيطِ عزائمه. المُفارقةُ أنَّ الشَّوطَ البعيدَ الذى قطعناه فى البطولة إلى الآن، كان بفضلِ كُلِّ من انتقدهم الجمهور والمُحلِّلون وأصحابُ الهوى الشخصى. أثبتَ "كيروش" بُعدَ نظرِه بالإصرار على اصطحاب أربعةِ حُرَّاس مرمى، وأثبت صلاح والننِّى وتريزيجيه وعمر كمال أنَّهم على قَدْرِ المسؤوليَّة، رغم ما طالهم من هجومٍ وانتقاداتٍ وتشكيكٍ فى المهارةِ والجدّيَّة. ذهبت تنظيرات جمهور "السوشيال ميديا" إلى مكانِها المُعتاد، وقد لا نذكرُها بعدما أحرزنا نصرًا تِلو آخر، لكنَّ الذاكرةَ لن تُسقِطَ ما قاله المُحلِّلون وأهلُ الكُرة!
استغربتُ أن يُشكِّك الكابتن المحترم تامر عبد الحميد فى مُدرِّب حُرَّاس المرمى عصام الحضرى، طارحًا الأمر فى صِيغةِ سُؤالٍ عن إصابة الشنَّاوى وأبو جبل، وهل كانت من قَبيل المُصادفة أم خطأ فى التدريب؟ وآلمنى أن يقول الكابتن حسام حسن تعليقًا على "كيروش" إنَّنا كسبنا المغربَ بطاقةِ التشجيعِ وتوفيق صلاح وتبديل تريزيجيه، ويقول خالد الغندور إنَّ مصرَ فازت لأنَّ المغربَ لم تكُن فى حالتِها. وساءنى أن يقول المحمودى والشيشينى وغيرهما إنَّنا "ضخَّمنا من المغرب وكوت ديفوار"، ليس لأنَّ فى هذا الحديثِ ما يمسُّ مُنافسين كِبارًا وإخوةً أعزَّاء داخل الملعب وخارجه فقط، ولكن لأنَّه ينتقصُ من قيمةِ مُنتخبِنا وجَهد لاعبيه، ويُحاول تصويرَ النجاحِ وتكرارِه كما لو أنه "حَظُّ الغَشِيم" أو رِزقُ المُصادفة الذى لم نكُن نستحقُّه ولا دورَ لنا فيه. ما قِيْلَ لا يدعو إلى الضِّيقِ والأسى فحَسْب، وإنَّما قد يُشكِّكنا فى معرفةِ المُتخصِّصين وجدارة طُروحاتهم، وإذا ما كانوا يحملون خبرةً حقيقيَّةً ويُعبِّرون عن رُؤيةٍ جادَّةٍ بوعىٍ وتجرُّدٍ حقيقييَّن، أم أنَّ فى الأمرِ استسهالاً وعشوائيَّةً أو ترصُّدًا أو بواعث خفيَّة لا نعلمُها!
ما حدثَ أنَّنا قدَّمنا بُطولةً مُحترمة. ربَّما كانت البدايةُ سيِّئةً نسبيًّا فى مرحلة المجموعات، لأنَّ الفريق لم يكن في أجواء البطولة بعد، أو أنَّ الجهازَ كان يُجرِّب اختياراته ويختبرُ الأجواء ويقيسُ المُنافسةَ والمُنافسين، أو أنَّ ظُروفَ الانتقالِ والإقامة والملاعب أعاقت اللاعبين جزئيًّا. أيًّا كانت الأسبابُ فإنَّنا استعدنا توازُنَنا، وقدَّمنا مباراتين لامعتين فى الأدوارِ الإقصائيَّة، وكان الفضلُ فى ذلك لرُؤيةِ الجهاز الفنِّى وكفاءته فى إدارة المُباراة، وجاهزيَّةِ اللاعبين وصُمودهم، وليس لاعتباراتِ الحَظِّ أو المُصادفةِ أو ضَعفِ المُنافس وتراخيه. نصفُ النهائى الآن تتقاسمه ثلاثةُ فِرَقٍ من التصنيف الثانى مقابل فريقٍ واحد من التصنيف الأول. البطولة فرضت منطقَها وأعادت الفرزَ والتقييم، وحملت مُفاجآتٍ على امتداد مراحلها، كان حضور الفراعنة وتألُّقُهم واحدةً من تلك المُفاجآت المُدهشة والسارَّة.
لو كان حسام حسن مُديرًا فنيًّا للمُنتخب فى البطولةِ، كُنَّا سنشكرُه على مُباراتى كوت ديفوار والمغرب، وبالتأكيد كان سيفخرُ فخرَ عُمرِه بأنه قدَّم هذا المستوى التكتيكى، وأجاد فى إدارة لاعبيه، وفرضَ سيطرتَه على السَّاحة، ووجَّه الخصمين الكبيرين إلى المحطَّة التى أرادها. ولو كان تامر عبد الحميد محلَّ كيروش، أو جدلاً فى موقع الحضرى، لم يكُن ليقبل التشكيكَ فى كفاءة الجهاز وإخلاصِه ونواياه. لن أقول إنَّهما وغيرهما حصلوا على فُرَصٍ فنيَّةٍ وإداريَّةٍ ولم يُقدِّموا ما قدَّمه "كيروش" وجهازه، ولا أنَّ هناك مَن كان مُرشَّحًا لتدريبِ المُنتخب ورُبَّما يضيقُ بأنَّ الاختيارَ تخطًّاه أو ما يزالُ يتطلَّعُ إلى الفُرصة. لهم جميعًا كُلُّ التَّقدير، ولا شَكَّ إطلاقًا فى صِدْق نواياهم، لكن ما أوَدُّ قولَه أنَّه ما هكذا تُورَد الإبل، وحتى لو كانت غايتُنا النقد والتفنيد من أجل صالح المنتخب وتصويب مساره، فرُبَّما لا نكون إزاءَ اللحظة المُناسبة، ولا يكون الطَّرحُ على تلك الصُّورةِ الأنسبَ وأفضلَ ما يُمكِن!
لا يعنينا كارلوس كيروش إلَّا من حيث أنَّه يقفُ الآن تحت عَلَمِ مِصرَ، وقد يرى القائمون على المنظومةِ بعد البُطولةِ أن يستمرَّ أو يُغادرَ. يظلُّ ذلك من قَبيلِ التّفاصيلِ التى لا تُجيزُ نَهشَ الرَّجُلِ الآن، ولا تُبرِّرُ الطَّعنَ فيه، بينما يُمثِّلنا ويتفانى فى ذلك قَدْرَ معرفتِه وخِبرتِه وما يتوفَّر له من ظُروفٍ ولاعبين، ولديه مصلحةٌ مُباشرٌ فى الفوزِ لا تقلُّ عن مَصَالحِنا. ولا يجبُ أن نُحبَّ أو نَكْرَهُ فى الشَّأنِ العام، إلَّا على أرضيَّةٍ من الوَعى والمنطق والمعرفة. وأَوْلَى النَّاسِ بأن ينضبطوا بتلك المعايير، ويُقدِّموا نموذجًا قويمًا فى التزامها، أهلُ الاختصاصِ ومَنْ يملكون الخِبرةَ والفَهم، لأنَّهم يستطيعون إدارةَ فوضى المجال العام ومنصَّات التواصل، أو على الأقلِّ التوقُّف عن سَكب الزَّيت عليها، والأهمُّ لأنَّ الدوائرَ تلفُّ وهم أنفسُهم يقعون فى حبائل الجمهور وتحت أنيابهم، كُلَّما تجاوزوا فى رأىٍ، أو سقطوا فى تصريحٍ، أو أساءوا عملاً يتصدَّرون له؛ لذا لا يجبُ أن يفرحوا بالغوغائيَّة والرَّواج المُفتعل، ولا أن يُشجِّعوا على تَسَيُّد سُلطةِ الجهل، كما لا يجبُ أن نفتح الباب لاستسهال الحُكْمِ واستحلالِ الجَهدِ وإراقة العَرَقِ هباءً ونُكرانًا.
لدينا قاماتٌ فى الإعلام الرياضى، هذه حقيقةٌ لا شَكَّ فيها، ولدينا قنواتٌ ومُقدِّمو برامج على قَدرٍ عالٍ من المهنيَّة والاحتراف؛ لكنَّ الأمرَ لا يخلو من عشوائيَّةٍ لدى البعض، ومن غُبارٍ يُثيره مستخدمو منصَّات التواصل الرقميَّة، وبعضُ الفنيِّين والمُتخصِّصين مِمَّن يُبسِّطون الوقائعَ أو ينظرون من مِنظارِ الهوى ومحبَّةِ شخصٍ أو كَرَاهَةِ آخر. قد يصحُّ هذا الوجه، أو يمرُّ بخشونةٍ مُحتَمَلةٍ وضِيْقٍ مبلوعٍ، فى مُنافسات الفِرَقِ والبطولات المحلِّيَّة وغابَةِ الانتماءات المُتعدِّدة، لكن مع المُنتخب لا بديلَ عن الانتماء الواحدِ والالتفاف حول دائرةٍ جامعة، وبينما ندخلُ مرحلةً فاصلةً فى المنافسات، فإنَّ بعضَ النَّقدِ - ولو حَسُنت فيه النوايا - ربَّما يكُون نقضًا وتكسيرًا، وليس إصلاحًا أو تصويبًا؛ لأنَّ الفريق يعيشُ لحظةً حاسمةً، ولديه ضغوط طارئة لا دخل للجهاز فيها، وما قدَّمه إلى الآن يفوقُ توقُّعاتنا جميعًا قبل البطولة، ويفوقُ ما يُمكن أن يُقدِّمه أىٌّ من المُدرِّبين والمُحلِّلين ومُنظِّرى الدَّاخل. لهذا قد يكونُ الصَّمتُ الآن فضيلةً، ودَعمُ الفريقِ وجهازِه وتشجيعُهم رأسَ الفضائل كُلِّها، ويكونُ الطَّريقُ إلى الجحيمِ - وقانا الله جميعًا شرَّه - محفوفًا بالنوايا الحسنة، وبـ"التحليل الرياضىِّ" الفجِّ والسَّطحىِّ أيضًا!