استوصوا بالنساء خيرا.. لا ضربا

جدلٌ لا أوَّلَ له ولا آخر، أُعيدَت إثارتُه من دونِ باعثٍ أو طائل، بعدما جدَّد البعضُ الحديثَ فى مسـألة ضرب الأزواجِ لزوجاتهم بين الشَّرعِ والفِقه. الحقيقةُ أن تلك النقاشات تقعُ الآن موقع الرفاهيةِ، ولا تنسجمُ بأيَّة صورةٍ مع الواقع وسياقاته الراهنة، ولا ما وصلت إليه الإنسانيَّةُ فى تقنين علاقات الأفراد وتنظيمها، والأهمّ أنَّ لدينا أمورًا تستدعى الجدلَ، وتقعُ على سُلَّمِ الأولويات، قبل إثارةِ الغُبار حول مسائل اجتماعية، ربما يكونُ الزمنُ قد تجاوزَها وأغلقَ صفحتَها تمامًا. إلى الآن، لم نصلُ وِجهةً حاسمةً فى مسألةِ التصدِّى لخطابات التطرُّف والعنف، ونواجه فريقًا يُحمِّلُ سوادَ قلبِه على كَتفِ الاعتقاد، ويُبرِّر إجرامَه كَذِبًا بأمورِ الشَّريعة والدِّين، ويعيثُ فى الأرضِ فسادًا وإفسادًا بينما يزعمُ أنه يبتغى الإصلاحَ. نحتاجُ جميعًا أن نتكاتفَ فى مُواجهةِ تلك الهجمةِ المُنظَّمة، وأن نستعيدَ وجه الدِّين الصافى ممَّن لطَّخوه بأوحالهم، وأن نُرتِّب أولوياتنا ونخوضَ المعارك والنقاشات وفق ما تقتضى الحالةُ، وتفرض علينا مصلحةُ البلاد والعباد! لا شكَّ فى أنَّ مسألةَ ضَربِ الزوجات موضوعُ بحثٍ قديم، وآلافُ الكُتبِ تمتلئ بما يُقنِّن الوضعَ فى ضوءِ النصِّ والعُرف، وقليلٌ يردُّه أو يضعه فى سياقاتٍ زمنيَّةٍ واجتماعيَّةٍ وثقافيَّةٍ تخصُّ أهلَها وأنماطَ معيشتهم. مهما كان حدُّ الاختلافِ حول الأمر، لا يُمكنُ القولُ إطلاقًا إنَّه يقع موقعًا مُتقدِّمًا بين أولويات الواقع، أو يُشكِّل مِفصَلاً خِلافيًّا عائمًا نحتاج إلى حَسمِه؛ إذ أفاض القانونُ فى ذلك ضمن ما تصدَّى له من أمورِ الاجتماع والمُعاملات، وبات المجتمع أكثرَ تحلُّلاً من مواريث عديدةٍ أحدثتها عصورٌ سابقة، أو فرضتها الحاجة، أو علقتْ فى أقدامِ العابرين من تَركةِ آبائهم. المهمُّ أنَّنا نقف الآن إزاءَ خلافٍ قديم؛ لكن من أسفٍ أن فريقًا عريضًا يُديرونه كما أُدير من قبل، برؤيةٍ ثابتةٍ، وبعقلٍ كأنه لم يُخالط الراهنَ أو يستوعب تطوُّراته السريعة والمُتداخِلَة. منشأُ الجدلِ الجديد، ما أُثيرَ عن تعديلٍ قانونى يُغلِّظُ عقوبةَ اعتداء الزَّوجِ على زوجته إلى الحبس مدَّة لا تزيد على خمس سنوات. فريقٌ من المحافظين ورجال الدين انطلقوا من الخطوة التشريعية ليُجدِّدوا الحديث عن مشروعيَّة الضرب وثُبوته بالنصِّ والعُرف، وفريقٌ رحَّب بالخُطوة وما تُمثِّله من تدرُّجٍ طبيعىٍّ فى اتّجاه تخليص المُجتمع من عاداتٍ تُخالفُ المدنيَّةَ ولا تنسجمُ مع حقوقِ الأفرادِ وتساوى مراكزهم. لم يهدأ الاحتدام حتى أثار أحدُ البرامجِ الموضوعَ؛ لتتبعَه حالةُ تجييشٍ بدت كأنّها مقصودةٌ أو مصنوعة، انبرى فيها فريقٌ من أهل العمائمِ يردُّون أو يُهاجمون أو يُقسمون بأغلظ الأيمان بحجِّيّة ضرب الزوجة. ربما لم يكن البرنامج مُوفّقًا، ويحق لمن يريد الاختلاف معه أن يختلف؛ لكنَّ المُنفعلين عليه خرجوا عن حظيرة التوفيق أيضًا. بعيدًا من حالةِ السُّخونةِ والخشونة التى يعيشها البعض. لا يُمكن النظرُ للمسألةِ خارجَ حيِّزِ التاريخ وسياقات الاجتماع التى ورثها الإسلام وتفاعل معها. جاء الدين وكانت النساء فى هامشٍ ضئيل، بين وأدٍ أو استعبادٍ أو غَمطٍ للحقوق، ولم تكن المرأة ترث أو تتصدُّر مجلسًا أو شأنًا عامًّا - إلا فى استثناءاتٍ تُؤكِّد سوءَ الوضعِ وصعوبتَه - من هنا كان موقفُ الإسلام خطوةً مُتدرِّجةً، تعترفُ بإنسانٍ كان فى وضعيَّةٍ أقرب إلى الإنكارِ أصلاً، وتُرتِّب عليه التزاماتٍ قد يراها البعضُ مُرهقةً، لكنها تمنحه حقوقًا لم تكن مُتاحةً له من قبل. بالضَّبطِ كما جرى فى مسائل الخمر والرّقِّ وغيرهما، ولا مانعَ من أن يتَّصل مسارُ التطوُّر، وأن يستوعب الدِّينُ ذلك ويقبله. إقراره للضَّربِ قديمًا لا يعنى قبولَه له على طول الخطّ، واستيعابه لتجريمه الآن لا يعنى ارتدادَه على عقبيه أو نفيَه لنصوصه. ما لم نرَ الصُّورةَ على وجهها الصحيح، من زاويةِ أنَّ الإسلامَ جاء ليصحبَ البشريَّةَ حتى محطَّتها الأخيرة، لا أن يحبسها فى زمنٍ أو مجتمع، سنظلُّ نضربُ فى الفِكْرِ والقضايا بغير هَدىٍ أو بصيرة. يدورُ الأمرُ بكامله حول آية النساء "وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ". من أراد أن يرى فيها مشروعيَّةَ الضَّربِ رأى، ومن أراد أن يفهمَ الأمرَ تدرُّجًا نحو مآلٍ لا بديل عنه، يضع الناس على قدمِ المُساواة بغض النَّظرِ عن النَّوعِ والرُّتبةِ ومزايا المُصادفةِ رأى أيضًا. مُفردةُ الضَّربِ معناها الإصابةُ أو المسُّ بعُنفٍ، لكنَّ الجِذْرَ اللغوىَّ نفسَه يحمل ضمن معانيه، بحسب لسان العرب، الإنشاءَ والإخصاب، من بابِ "ضربَ الدِّرهم" أى صكَّه، و"ضربَ الفَحلُ النَّاقةَ" أى نكحَها. لماذا لم تنصرف أذهانُ المُتحدِّثين الآن إلى معنى من غابة المعانى، وأوقفوا الأمرَ على الضَّربِ بمعناه الشائع المحمول على العنف البدنى؟ وما حاجةُ الناسٍ الآن لأنَّ يُرسِّخَ فيهم داعيةٌ أو مُدَّعٍ قيمَ العُنفِ والاعتداء على الآخر، حتى لو كانت الزوجة، مع ما يحمله هذا من انتهاكٍ للقانون أو إشاعةٍ لمفاسدَ أكبر ممَّا يتوهَّمُ الداعى لذلك من مَنْفَعة؟! هَبْ أنَّ الضَّربَ مشروعٌ فعلاً، وسمع زوجٌ تلك الدعوة من شيخٍ أو خَطيبٍ والتزمها، ثمَّ مارسَ العُنفَ مع زوجته فأصابها أو ماتت بين يديه. هل يتحمَّل الداعون إلى العُنفِ جريرةَ ذلك؟ هل يقفون إلى جوار الجانى أمامَ القانون؟ هل يُريحهم أن تُهدَم أُسرةٌ ويُغلَق بَيت؟! المؤكَّدُ أنهم سيقولون لا، لا يُرضينا ذلك ولا نُحبّه. وربّما ينظرون للأمر من جانبِ أنَّه فَهمٌ مَحض، وتحريرٌ لقضيةٍ أو إثباتٌ لمفهومٍ يشتملُ عليه النص، وليس دعوةً لإجرائه عمليًّا أو وضعِه موضعَ التطبيق، لكن الغريب أنَّهم فى أمورٍ أقل من ذلك، وقضايا فى مجال التاريخ والتَّراجُمِ والسِّيَر، يقولون إنَّ الحوادث والتفاصيل علمٌ لا ينفعُ وجهلٌ لا يضرّ، ويُوقفون الأمرَ على الخاصَّة وخاصَّة الخاصّة، كما يحدثُ مثلاً فى وقائعِ الفِتنة الكُبرى، فلماذا لا يعتبرون جدليَّةَ الضَّرب شأنًا بحثيًّا يتداولونه فى الكُتب والمحاضرات، بدلا من الخروج على المجتمع بما يصطدم مع الذائقةِ الإنسانيَّةِ الراهنةِ، ويُخالفُ الدستورَ والقانون، ويقفزُ على مُرتكزاتٍ تُمثِّل ضمانةَ السلِّم واستقرارِ الاجتماعِ والعُمران؟! القرآنُ نفسُه يقول "فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ". هل يحتمل ذلك أن نقولَ للناس: إذا لم تجدوا الراحةَ والاستقرار ففارقوا بعضكم، وأحلَّ الله الطلاقَ حتى لا نعيشَ حياةً تسوؤنا أو تفوقَ احتمالَنا، بدلاً عن أن نقولَ لهم أَفْشُوا العُنفَ بينكم؟! وهل ينسجمُ يا أفاضلُ أن نقرأ الآيتين فى سياقٍ واحد؛ لنخرج مثلاً بأن فرضيَّة الضَّرب التى تقطعون بحُجِّيّتها مُعلَّقةٌ على قَبول المضروبِ أوَّلاً، فإن لم يقبل فلا حرج فى التسريح بإحسان؟ هنا قد لا يبدو الأمرُ توقيفًا أو رُخصةً مُطلَقة، ويحلُّ أن يُعمِلَ المجتمعُ صيرورته وقوانين تطوُّره، وأن يضع أعرافًا غير ما أورثه الآباءُ، وأن يتدخَّل القانونُ ليملأ تلك المسافةِ بين الزَّوجين، ويُنظِّم العلاقةَ فى مساحةِ الاختلاف، كما نظَّمها فى مساحاتِ التَّوافُقِ والحقوق. الواقعُ أنَّ العقدَ شريعةُ المُتعاقدين، ولا ينصُّ عَقدُ نكاحٍ على مِلْكيَّةِ الزَّوجِ لزوجته، أو حقِّه فى إدارة حياتها وتصريف أُمورها كيفما شاء، وبطبيعةِ الحال لا يُطلق يدَه فى إهانتِها أو ضربِها، لأنَّه ليس صَكَّ بَيعٍ ولا اتِّفاقَ اسْتِرقاق! مصيرُ الأُسَرِ وسَلامةُ المُجتمع مُعلَّقان على علاقةِ الأزواج، والأمرُ لا يقبل المُكايدةَ، وليس مجالاً لفَرْضِ الوِصايةِ أو اختبارِ عُلُوَّ الصَّوت، وعلينا جميعًا أن نحتكمَ لصيرورةِ الزَّمنِ وإرادةِ النَّاسِ وفَلسفةِ التَّشريعِ، وأن نُعلىَ المصلحةَ العامَّةَ فوقَ الأهواءِ أو المطامعِ أو شهوةِ الظُّهور. لمَن أرادَ أن يعتقد فى شرعيَّة الضَّربِ أن يعتقد، ولمَن أرادَ الاختلافَ أن يفعلَ، من دونِ فوضى أو إثارةٍ للغُبار أو احترابٍ من أجلِ السَّيطرةِ على المجالِ العام، وعلى من يُمارسُ ذلك - باقتناعٍ شخصىِّ أو تحبيذِ خَطيبٍ - أن يقبلَ احتكامَ الطَّرفِ الآخر للقانون وسُلطةِ الدَّولةِ؛ بوصفها راعيًا لأمورِ الاجتماع وحَكَمًا بين مواطنيها. رغمَ عظيمِ احْترامى لجَهدِ المُجتهدين، وقناعاتِ القُدامى والمُحدثين، لا يرتاحُ عقلى ولا قلبى إلى أنَّ الإسلامَ أقرَّ الضَّربَ أو أمرَ به. الآيةُ التى يحتجُّ بها المُحتجُّون تضع "اضربوهن" تاليًا للوَعظِ والهَجْر، فأين الوَصْل؟ ألا يُحتَمَلُ أن يكونَ الضَّربُ هنا هو الوَصْلُ نفسُه؟ ويكونَ التَّرتيبُ: الوَعْظ، أو الهجر، أو العلاج بالقُرب، بدلاً عمَّا يُحدثُه الضَّربُ من بُعدٍ وشِقاق؟! لا يُؤثَر عن الرَّسولِ أنَّه ضربَ أيًّا من زوجاته، وإذا كان علينا التأسِّى بالنبىّ الكريم؛ فالأوقعُ أن يدعو الشيوخُ والخطباءُ إلى عَدَمِ الضَّربِ، لا أن يُدافعوا عن وُجودِه وعاديَّتِه وقَبولِه شرعًا وفِقهًا. ما أحوجنا إلى أن نقفَ فى صَفِّ الدِّين، لا أن نقفَ مع خُصومِه عليه! وأن نستلهمَ قَولَ الرَّسولِ "استوصوا بالنِّساء خيرًا"، بدلاً عن أن نستوصى بهنّ ضربًا، فنهدم بيوتَنا ونقع تحت طائلةِ القانون، بينما نتوهَّمُ أنَّنا نُحسِنُ صُنعًا!



الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;