ليس العوار فى صناعة الكتاب وقفا على سياسات وزارة الثقافة وحسب.. يقتضى الإنصاف أن نتفحص عالم صناعة الكتب فى مصر على وجه العموم لنعرف أن أمراضا شتى تعشش فى أركان هذه الصناعة.. نظرة فاحصة لمعرض الكتاب الحالى كفيلة بالوصول لهذه الرؤية البانورامية بشيء من السهولة.
فى المعرض ملايين العناوين بين دور نشر عامة تملكها الدولة.. سواء أكانت مملوكة لوزارة الثقافة أو غيرها من الوزارات أو تمثلت فى المؤسسات الصحفية القومية كالأهرام أو أخبار اليوم أو دار الهلال من تلك المؤسسات ذات الباع التاريخ الكبير فى عالم طباعة ونشر الكتاب.. هناك أيضا دور نشر خاصة ذات تاريخ مهم فى عالم الكتاب، هذه الدور جميعا نضعها عبر هذا التصنيف فى خانة واحدة برغم اختلاف أنماط ملكيتها بين حكومية وقومية خاصة -ولهذا سبب سنذكره لاحقا فى مكانه من هذه السطور- أما الخانة الثانية ففيها دور نشر جميعها ينتمى للقطاع الخاص وتشترك فى أنها ظهرت وانتشرت وحققت رواجا واضحا خلال السنوات العشر الأخيرة ووصلت إلى أعلى المبيعات فى كتبها.
الفريق الأول لا يزال يحافظ على أسس صناعة النشر من حيث أهمية موضوعات الكتب التى ينشرها أو جدية الكاتب فى عرض هذه الموضوعات، ونلاحظ أن غالبية الكتاب الذين ينشرون ما يكتبون لدى دور النشر هذه هم من جيلى الكبار والوسط فإذا نشرت هذه الدور لكتاب من الشباب جاء اختيارها دقيقا تماما لأن لديها خبرات واسعة حقيقية فى مجال النشر، فيما تلهث دور النشر الجديدة ذات العمر القصير وراء عناوين عجيبة: روايات عن الجن والعفاريت أو الغاز دموية قائمة على الجريمة، أو دنيا السحر والأعمال السفلية أو الجنس والهوس الجسدى.. باختصار تلهث خلف ما يحقق المبيعات وحسب، وبالمناسبة فإن هذه المبيعات تفوق الخيال فعلا، وهناك أسماء لكتاب ما نزل الله بها من سلطان يتابعها شباب تحت الثلاثين عاما لدرجة الشغف، ويحقق عنوان الرواية الواحد من هذه الروايات أرقاما أسطورية.. أملك من الشجاعة ما يكفى لأقول إنها مبيعات تفوق مبيعات شيخ الرواية العربية نجيب محفوظ أو شيخ الكتاب السياسيين محمد حسنين هيكل!.
هذا واقع متحقق فى دنيا الكتاب اليوم، هناك فجوة حقيقية صنعت بفعل فاعل على مدار عشر سنوات ضربت فيها الفوضى صناعة الكتاب لتشهد سوق القراءة المصرية لأول مرة فجوة غير مفهومة فى عالم مستهلكى الكتاب، وليحدث لأول مرة تقسيم عجيب للقراء بين هؤلاء الذين يقبلون على "الكتاب الحقيقي" وبين أولئك الذين لا يقبلون إلا على الكتب التافهة، ونحن رأينا هذه النوعية من القراء هواة التفاهة على مدار حياتنا بل منا من كان يجمع بين القراءة الجادة وغير الجادة، لكننا أبدا لم نر هذا التقسيم الحاد الذى نراه اليوم، كنا فى الماضى نقرأ اول ما نقرأ لنجيب محفوظ وتولستوى وتشيخوف ويوسف إدريس ثم نتجه للأحدث فالأحدث.. اليوم ثمة جيل قرأ لـ(سين) أو (صاد) من الناس أول ما قرأ ولا يعرف عنوانا واحدا لنجيب محفوظ مثلا.
هذه ظاهرة عجيبة وخطيرة وجديدة لا يلتفت إليها أحد فى سوق الكتاب أخرجت لنا جيلا يقرأ، ولكنه يقرأ ما كنا نتمنى ألا يقرأه!.