إننا أمام جهة وضعت نفسها فوق كل الجهات
بعد أن قررت «هيئة كبار العلماء» طرد على عبدالرازق من زمرة العلماء بسبب «الإسلام وأصول الحكم» عام 1925، كانت الآثار العملية للحكم تعنى، محو اسم المحكوم عليه من سجلات الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى، وطرده من كل وظيفة وقطع مرتباته فى أى جهة كانت، وعدم أهليته للقيام بأى وظيفة عمومية دينية كانت أو غير دينية، وكتبت صحيفة «السياسة»: «هذه النتائج المندية التى تترتب على قرار هيئة كبار العلماء تفتح مسألة كانت إلى اليوم مغلقة، وقد كنا نرجو ألا تفتح فى مصر لما ترتب على فتحها فى غير مصر من الآثار، وهذه المسألة هى ما للهيئة الدينية من حق التداخل فى شؤون السلطات المدنية ومبلغ استقلال كل وزير فى وزارته لتكون مسؤوليته على مقدار هذا الاستقلال».
كلام «السياسة» كان يعنى بوضوح أننا أمام جهة وضعت نفسها فوق كل الجهات، وهنا بدأت أزمة كبيرة يلخصها محمود عوض فى كتابه أفكار ضد الرصاص بقوله: «هيئة كبار العلماء هى هيئة دينية، لا يحق لها أن تعاقب الشيخ على عبدالرازق على رأى نشره فى كتاب، لكن لنفرض جدلا أن من حقها أن تعاقبه، فهل من حقها أن تفصله من وظيفته المدنية؟ إن على عبدالرازق يعمل قاضيا شرعيا لمحكمة المنصورة الابتدائية، إنه بناء على ذلك موظف مدنى تابع لوزارة الحقانية «العدل»، وليس تابعا للأزهر، فهل تقوم الوزارة بفصله من وظيفته المدنية تنفيذا لقرار هيئة كبار العلماء؟ كانت هذه هى المشكلة التى بدأت تفرض نفسها على مجلس الوزراء، مشكلة خلقت أول أزمة سياسية كبرى فى مصر بسبب كتاب».
كان أحمد زيور باشا هو رئيس الوزراء، وكان يقضى إجازة فى أوروبا عندما نشبت الأزمة، وكان يحيى إبراهيم باشا هو رئيس الوزراء بالنيابة، وكان عبدالعزيز باشا فهمى هو وزير الحقانية، وعقب صدور حكم هيئة كبار العلماء اجتمعت الحكومة مناقشته، وطلب رئيسها بالنيابة يحيى باشا إبراهيم الانتظار حتى يأتى أسباب الحكم، وكانت التوقعات تدور حول أنه بمجرد أن تتلقى الحكومة الأسباب ستدفع بعدم اختصاص الهيئة، لكن هذا لم يحدث، حيث قام يحيى باشا إبراهيم فور تلقيه الحكم بإرساله مباشرة إلى وزير الحقانية عبدالعزيز باشا فهمى طالبا تنفيذه، ومعنى ذلك فصل على عبدالرازق.
كان عبدالعزيز باشا فهمى رئيساً لحزب الأحرار الدستوريين إلى جانب أنه وزير للحقانية، كما أنه رجل قانون من الطراز الرفيع، والأهم أنه لا يشعر بأى نقيصة تجعل تعليمات رئيس الوزراء له واجبة التنفيذ حتى لوكانت خاطئة، ومن هنا كان موقفه مغايرا لموقف رئيسه، وبدلا من تنفيذ التعليمات قام بتوجيه أسئلة إلى لجنة قانونية فى قلم قضايا الحكومة، كان أهمها: «هل نص الفقرة الأولى من المادة 101 من قانون الأزهر الصادر فى سنة 1911 يقصر اختصاص هيئة كبار العلماء على الأفعال الشائنة التى تمس كرامة العالم، أو هو نص عام يشمل جريمة الخطأ فى الرأى من مثل ما نسب إلى الشيخ على عبدالرازق ووقعت المحاكمة فيه؟».
كان معنى هذه الأسئلة أن وزير الحقانية علق تنفيذ حكم هيئة كبار العلماء، حتى يقول رجال القانون كلمتهم، لكن هذا التصرف لم يعجب رئيس الوزارء بالنيابة يحيى إبراهيم باشا، وفى اجتماع للحكومة سأله: «ماذا تم فى الحكم يا عبدالعزيز باشا؟»، فرد: «أحلته إلى لجنة قانونية لإبداء الرأى؟ وهنا بدأت العاصفة».