فاز مُنتخبُ مصر باستحقاقٍ كامل، فى مباراةٍ أرادها رئيس اتِّحاد الكاميرون صامويل إيتو حربًا، فكانت مواجهةً أقلَّ من مُتوسِّطةٍ من جانبِ فريقه، وفرض المصريِّون منطقَهم وحكموا المُستطيلَ طوال 120 دقيقة. كسبنا المباراةَ، وخسر "إيتو" الحرب، لكنَّ خسارتَه مُضاعفةٌ؛ لأنه هزَّ صورتَه التى بناها لاعبًا، وقدَّم نفسَه للناسِ إداريًّا أهوجَ عاريًا من قِيَم الرياضة الحقَّة. بدا فى تصريحِه ونظرتِه للمشهدِ كأنَّه مُراهقٌ يتلمَّس طريقَ الكُرةِ والتشجيعِ الخَشنِ فى بدايته، أمامَ شاشةٍ عتيقةٍ يكسوها الغُبارُ على مقهى شعبىٍّ ردىء.
قدَّم الفراعنةُ أداءً كبيرًا، وحتى لو عاد المُنتخبُ إلى القاهرة من دون اللقب، وذهبَ الكأسُ إلى السنغال فى أولى بطولاتها القارّية؛ فإن هذا لا ينتقصُ إطلاقًا ممَّا أنجزه اللاعبون وجهازُهم الفنىّ، بالنَّظرِ إلى مستوى البطولةِ وسوءات التنظيمِ وحالة الفريق وكُلِّ التوقُّعات السابقة لمشوار مُنتخبنا فى غابةِ الكُرةِ السمراءِ ووسط أُسُودِها. كشفت المُنافساتُ عن روحٍ عظيمةٍ لدى لاعبى مصر، ومعدنٍ صلبٍ لا يلينُ ولا ينكسرُ مهما كانت الضغوط؛ لكنَّها كشفت قبل ذلك عن مُشكلاتٍ حقيقيَّةٍ فى أروقةِ "كاف"، وعلى صعيدِ إدارةِ الكُرةِ الأفريقيَّةِ ومُناسباتها!
مُحلِّلو تليفزيون الجزائرِ مثلاً، قالوا خلال فواصلِ المُباراةِ وبعدها، إنَّ أداءَ حَكَمِ السَّاحةِ يُشيرُ إلى منطقٍ معهودٍ فى مُجاملةِ البلدِ المُنظِّم. صحيحٌ أن هذا لم يحدث مع مصر فى بطولة 2019 التى ودَّعتها مُبكِّرًا مع أُولى مواجهاتِ الأدوارِ الإقصائيَّة، لكنَّه جرى بشكلٍ سافرٍ فى بُطولة الكاميرون، بدءًا من المجموعاتِ حتى جولات خُروج المغلوب، وكان نموذجَه الفجَّ مع تعيين الجامبى بكارى جاساما حكمًا للقاء مصر، مع ما يُعرَفُ عنه من قابليَّةٍ للتوجيهِ بصُورٍ شتَّى، والمفارقةُ أنَّ الكاميرون أخرجت بلدَه خُروجًا قاسيًا فى مواجهتها السابقةِ، ما كان يفرضُ عليه العدالةَ بدلاً من انحيازٍ رُبّما طالَ مُنتخبَ جامبيا نفسَه قبلنا. وبعيدًا من سُوءِ "جاساما" الشخصىِّ المعروف، لم يهتمّ الاتِّحادُ الأفريقى باعتراضِ مصر، وتجاهلَ الاحتجاجَ الرسمىَّ من الجبلاية، ولم يُراعِ أن اتِّحادًا عريقًا مثل مصر - لا يُعرَفُ عنه الاعتراضُ أو إثارةُ الغُبارِ وافتعالُ الأزمات - لن يُغامرَ بسُمعتِه وتاريخِه إلَّا إذا كان يلمسُ شُكوكًا حقيقيَّةً، ترقى إلى درجةِ اليقينِ، يُمكنُ أن تُلطِّخَ قميصَ البُطولةِ، فضلاً عن تهديدِها سلامةَ المُنافسةِ وعدالتَها، وحدثَ بالفعل!
كانت إدارةُ "جاساما" للقاءِ مُنحازةً منذ اللحظةِ الأولى إلى جانب الكاميرون. مُراجعةُ شريطِ المُباراةِ لن تتطلَّب جهدًا كبيرًا لاكتشاف هذا، بين قراراتٍ لصالحِ المُنافسِ أو تغاضٍ عن غيرها لمصرَ فى التحاماتٍ وأخطاءٍ مُباشرةٍ من الكاميرونيِّين. إنذارٌ مُتعجِّل للننِّى، وإنذاران فى ثلاثِ دقائق لإبعادِ المُديرِ الفنىِّ كارلوس كيروش من أرضِ الملعب، وعقوبةٌ لعُمر كمال لم تستقِم مع مُجاملاتٍ صارخةٍ على الجانبِ الآخر فى كُراتٍ مُشابهةٍ أو أكثر خطورة. أحسَّ لاعبو مصر أنَّ الحَكَمَ مُتحفِّزٌ ضدهم، فأحسنوا الخروجَ باللقاءِ إلى آخرِه بأقلّ الخسائر، ولم يكُن مُمكنًا إنهاؤه لصالحِنا إلَّا عبر تحييد صافرةِ "جاساما"، والذهابِ بالمواجهةِ إلى ركلاتِ الترجيح؛ بوصفها أداةً كاشفةً يصعبُ التلاعبُ فيها.
ما فعله الحَكَمُ الجامبى، يُضاف إلى تعنُّتٍ واضحٍ من جانب "كاف" ورئيسِه الجنوب أفريقى باتريس موتسيبيه. صحيحٌ أن مقرَّ الاتِّحاد بالقاهرة، لكنه يبدو طوالَ الوقتِ خصمًا لا شريكًا، ولم يخلُ الأمرُ من تهديدٍ وتلويحٍ ومؤامراتٍ تواطأ فيها كثيرون لنقلِ المقرِّ، رغم أنَّ مصرَ واحدةٌ من مُؤسِّسيه الأربعة، وقادته أحد عشر عامًا فى بدايتِه من خلال عبد العزيز سالم ومحمد عبد العزيز مصطفى، لكنَّها لم ترأسه منذ العام 1968، ولا تقعُ على قدمِ المُساواة مع بقيَّةِ الأعضاء فى اهتمامات رُؤسائِه المُتلاحقين. كانت القراراتُ التاليةُ لمُباراة المغرب بما اشتملت عليه من عقوباتٍ قاسيةٍ موقفًا بالغَ الحِدَّةِ والتزيُّد، وإذا وضعناه إلى جانبِ تعيين "جاساما" لإدارة مُباراتنا مع الكاميرون، ثمّ تجاهُل الاحتجاجِ المصرى على الاختيار، ثمّ قرارات الحَكَمِ الجامبى، وأخيرًا مُلاحقة "كيروش" بعقوبةٍ جديدةٍ تضمَّنت إيقافَه مُباراتين وتغريمَه 10 آلاف دولار، بعد إيقافِ مُساعدِه 4 مُباريات. يصعُبُ أمامَ هذا الزحام من المواقفِ الحادَّةِ المشحونةِ بانفعالٍ وقراراتٍ غير بيضاء، أن نرى الأمرَ من قبيل المُصادفة أو الحسمِ المُبرَّر، لا سيَّما أن خُروقاتٍ فادحةً بالبُطولةِ لم يتصدّ لها الاتِّحاد، وشهدت بعضُ المُباريات تشابُكًا خشنًا ولم يتدخَّل، ومات المُشجِّعون فى المُدرَّجات وعلى أبوابِ الملاعب وكأنه لا يرى ولا يسمع. اختار "كاف" لونَ بشرته وانحاز له، رغم أننا لسنا خُصومًا ولا وافدين على القارة، وما يجرى على العنصرية ضد أفريقيا من الخارج، يُمكن أن يصدُق فى حقِّ بعض إجراءات اتِّحادها الكروى مع الأشقاء بالداخل!
طريقُنا فى البطولةِ لم يكُن مفروشًا بالورود، كما كان طريق الكاميرون. خسرنا المباراةَ الافتتاحيَّةَ بأداءٍ هزيل؛ لكنَّنا تداركنا الموقفَ بفوزين عاديِّين على السودان وغينيا بيساو، ولم تتجاوز توقعاتُ أكثرِنا تفاؤلاً أن نخرجَ من دورِ الستَّة عشر خروجًا مُشرِّفًا. ما جرى بعد ذلك كان مُفاجئًا ومُدهشًا، وصلنا إلى النهائى بعد مُواجهاتٍ صعبةٍ للغاية، لعبنا خلالها أربعَ مُبارياتٍ فى ثلاث، نحو 360 دقيقة خلال ثمانية أيامٍ فقط، ما يجعلُ تلك الرحلةَ أطولَ ماراثون للفراعنة فى البُطولةِ الأفريقيَّةِ منذ انطلاقها بالعام 1957، مع منسوبٍ عالٍ من الإجهادِ والإصابات التى أبعدت عددًا من الأوراقِ المُهمَّة، كان منها الحارسان الأساسيَّان فى واحدةٍ من اللحظات الصعبة. فى المُقابلِ خاضت الكاميرون مواجهاتٍ سهلةً نسبيًّا فى المجموعاتِ مع إثيوبيا وبوركينا فاسو والرأس الأخضر، ثم جُزر القمر وجامبيا فى الستَّة عشر والثمانية، وكان أوَّلُ وقتٍ إضافىٍّ لها أمام مصر، بينما نتأهَّب الآن للسنغال التى عبرت الرأس الأخضر وغينيا الاستوائية وبوركينا فاسو من الأوقات الأصليَّة. فارقُ الوقتِ وفروقُ المُواجهاتِ لا تُلقى عبئًا مُضاعفًا على لاعبى مصر المُجهَدين فى كأس العرب وجدول الدورى المضغوط فقط؛ وإنما يجعلُ الوصولَ إلى المباراة النهائية فى هذه الظروف إنجازًا حقيقيًّا، وشهادةً ناصعةً للفريقِ والجهازِ الفنى والمنظومةِ الطبيَّة، وللجمهورِ الذى وقف وساند فى لحظاتِ الضَّعفِ والخفوت، كأنَّه يُقدِّر الحالةَ، أو يثقُ ثقةً مُطلقةً فى عزائمِ الرجال وإخلاصِهم وتفانيهم.
أثبتت رحلةُ الكاميرون الأخيرةُ جُملةَ أُمورٍ، أوّلها أنَّ لدينا فريقًا له قُوامٌ مُتماسكٌ، ويملكُ أكثرَ ممَّا كُنّا نراه منه سابقًا، وأن الجهازَ الفنىَّ الحالى بقيادة "كيروش" كُفء ولديه رؤيةٌ عميقةٌ وناضجة، ويُحسنُ إدارةَ المواجهاتِ داخلَ الملعبِ وخارجه، ولديه أوراقٌ لا تنفدُ للمُناورةِ والخداع، كما لا يفقدُ دفَّةَ السيطرةِ حتى فى أحلك الظروف. وبعيدًا من مُماحكات بعض نقَّاد "السوشيال ميديا" والمُلوَّنين بانتماءات الداخل، الساعين لإسقاطِ استقطاب الدورى على المُنتخب، سواء بانتقاد خُلوِّ القائمةِ من بعض اللاعبين، أو الحديث عن تغيير محمد شريف بعد عشر دقائق من نُزولِه، فإن العبرةَ بالنتيجةِ وسلامةِ الوصولِ إلى الغاية، وحتى اللحظة أجاد كيروش وجهازُه فى كلِّ الاختبارات المُهمَّة، وتغلَّب على عوائق الضغطِ والإجهادِ وقِصَرِ فترة الإعدادِ وطَيشِ قطار الإصابات. وصلنا إلى المُباراةِ النهائيَّة بجهدٍ استثنائىٍّ، وبعد امتحاناتٍ صعبة، بينما خرجت فِرَقٌ كانت مُرشَّحةً لرَفعِ الكأسِ بعد مُواجهاتٍ سهلة. جانبٌ من الفضلِ يعودُ إلى اللاعبين وجدِّيتهم وروحهم القتالية العالية، لكنَّ جانبًا كبيرًا من نصيب جهازٍ جيِّدٍ ومديرٍ فنى كبيرٍ وقدير.
يومان ويُسدَل الستارُ على البُطولة، بكلِّ حسناتها وسوءاتها، وبعيدًا من النتيجة النهائية سواء أحرزنا اللقبَ أو رجعنا إلى القاهرة وصيفًا للبطل، فإننا استعدنا مكانةَ الكرةِ المصريَّة وقدرًا عظيمًا من بريقها. سارت الأمورُ كما نُحبُّ أحيانًا، وعاندتنا الظروفُ وبعضُ الكارهين فى أحايين أخرى، لكننا نقفُ فى المساحةِ البيضاء الخالصةِ على أرضٍ صلبة. نحبُّ أفريقيا فى الكُرةِ كما نُحبُّها فى السياسة والاقتصاد، نفخر أنَّنا جزءٌ أصيلٌ منها، ونحملُها فى قُلوبنا وعلى أكتافنا كلَّما خاطبنا العالم أو جلسنا على طاولةٍ إقليميَّةٍ أو أُمَميَّة، ونعرفُ أن أهلَنا فى القارّةِ السمراءِ العظيمة يُبادلوننا الحُبّ، وأن مواقفَ المُنحازين وأصحابِ الهوى والمصالحِ لا تُمثِّل أفريقيا وشعوبها، ورأينا ذلك فى محبَّةِ شعبِ الكاميرون وترحابِه وتشجيعه لنا بينما كان رئيسُ اتِّحاده يرى الأمرَ حربًا. العبء الأكبرُ الآن يقعُ على عاتق الاتحاد الأفريقى، من أجل استعادةِ الوجهةِ السليمة، وتخليصِ اللعبة من الحسابات غير البريئة. إذ للأسف أرادها "إيتو" حُروبًا فى تصريحاته الطائشة، بينما هى فى أصلها سلامٌ وأُخوَّة، وأفضت بالفعل إلى مكاسب للجميع، فى التشاركِ والتقارُبِ والمُنافسة واختبار الكفاءة، ويبدو للأسفِ أن الهزائم قد تكونُ من نصيب "الكاف" وحده!