منذ أيام قليلة شاهدت على إحدى القنوات الفضائية المصرية المتخصصة فى عرض الأفلام السينمائية، خاصة الأفلام القديمة، واحدا من كلاسيكيات السينما المصرية والذى لم يتكرر إنتاج أفلام كثيرة مثله للأسف فى السينما المصرية.
فيلم "مولد يا دنيا" الذى لا يعرض كثيرا فى الفضائيات وأتذكر أن آخر مرة شاهدت فيها هذا الفيلم البديع والرائع والممتع منذ أكثر من 20 عاما، ولا أعرف سبب ندرة عرضه على شاشات التليفزيون.
الفيلم هو ثالث فيلم مصرى يستمر عرضه لفترة طويلة – 30 أسبوعا- بعد فيلم أبى فوق الشجرة لعبد الحليم حافظ عام 69 واستمر عرضه 58 أسبوعا بدور العرض وفيلم خلى بالك من زوزو بطولة سعاد حسنى عام 72، واستمر عرضه حوالى 40 أسبوعا وحقق رقما قياسيا فى الإيرادات.
المفارقة أن ما يجمع بين الأفلام الثلاثة الأكثر عرضا فى دور السينما المصرية هو الخط الرومانسى الاستعراضى لكن فيلم "مولد يا دنيا"، يتفوق فى الجانب الاستعراضى بكثير وغنى فيه كل أبطال الفيلم تقريبا بما فيهم الفنان الكبير توفيق الدقن بصوته الأجش ومحمود ياسين برخامة صوته ومحيى إسماعيل.
الفيلم الذى عرض عام 76 يحكى الفيلم قصة مجموعة من الشباب المشردين الذين تضطرهم ظروفهم القاسية للانحراف حتى التقوا بمدرب للرقص (محمود ياسين)، الذى يقوم بمحاولة لإنقاذهم وإشراكهم فى فرقه للفنون الشعبية. وينجح فى ذلك بعد سلسله من الأحداث الدرامية.
الفيلم قصته بسيطة للغاية ومن يقرأها قبل أن تتحول إلى فيلم سينمائى سيرفض مشاهدتها أو تحويلها حتى الى سهرة تليفزيونية. وهنا تأتى عبقرية مخرج مثل حسين كمال الذى حول القصة البسيطة إلى مجموعة من الأغانى والاستعراضات الجميلة والمدهشة مستغلا صوت عفاف راضى الساحر والذى سيطر على الساحة الغنائية منذ بداية السبعينيات ونجومية "جان السبعينيات" محمود ياسين وعبقرية ألحان بليغ حمدى وكمال الطويل ومحمد الموجى وعلى إسماعيل، والكلمات المبهجة لمرسى جميل عزيز وعبد الرحيم منصور وسيد مرسى ومجدى نجيب وباقى طاقم العمل وعلى رأسه القدير عبد المنعم مدبولى، وسعيد صالح ولبلبة وحسن السبكى ومحيى إسماعيل ونعيمة الصغير ومحمد نجم وحسن مصطفى. وما أدهشنى أن الفيلم قصة وسيناريو وحوار الضابط الأديب يوسف السباعى وزير الثقافة الأسبق مؤلف فيلم رد قلبي.
فيلم تتوفر له كل أسباب النجاح من فنانين ومخرج له اسمه وعباقرة التلحين فى مصر وقتها وأساتذة الشعر الغنائى والإنتاج لصوت الفن التى شارك فى تأسيسها عبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب، فلا بد أن يحقق الهدف منه وأن يصبح واحدا من أهم الأفلام الاستعراضية فى تاريخ السينما المصرية وما زالت أغانيه يتداولها الجمهور حتى الآن، خاصة أغانى النبى تبسم ويهديك ويرضيك ثم أغنية عبد المنعم مدبولى "طيب يا صبر طيب"، والذى أداها ببراعة شديدة حتى أن جميع من حضروا تصوير الأغنية فى الاستوديو بكوا مع صوت مدبولي. وهى الأغنية التى كتبها مرسى جميل عزيز ولحنها كمال الطويل.
"مولد يا دنيا" ربما يكون هو الفيلم الوحيد الذى يضم 9 أغانى علاوة على أغنية الاستعراض الأخير يالا يا دنيا، فأغنية المولد كلمات مرسى جميل عزيز ألحان على إسماعيل وأغنية تعالى جنبى كلمات عبد الرحيم منصور ألحان بليغ حمدى وأغنية شبيك لبيك كلمات مرسى جميل عزيز ألحان منير مراد وأغنية يهديك يرضيك كلمات مرسى جميل عزيز ألحان محمد الموجى.
وأغنية زمان وكان يا ما كان كلمات مرسى جميل عزيز ألحان كمال الطويل وأغنية حبيتك كلمات مجدى نجيب ألحان بليغ حمدى، وأغنية يمكن على باله كلمات عبد الرحيم منصور ألحان بليغ حمدى وأغنية يا قوى كلمات مرسى جميل عزيز ألحان محمد الموجى، وأغنية يلا يا دنيا كلمات سيد مرسى ألحان بليغ حمدي.
وقد لا يعرف الكثيرون أن الفنانة الجميلة عفاف راضى كان يبلغ عمرها وقت عرض الفيلم 22 عاما فقط فى حين كان عمر محمود ياسين 35 عاما، وللأسف لم تكرر عفاف التجربة مرة أخرى وأظن أن الفيلم الاستعراضى برشاقته وخفته وجماله وإبداعه اختفى من السينما المصرية ولم يعد حتى الآن والأسباب معروفة للجميع...! وما زال مولد يا دنيا يتربع على قمة الأفلام الاستعراضية حتى الآن رغم مرور نصف قرن تقريبا على إنتاجه. رغم تميز السينما المصرية منذ بداياتها الأولى بالاهتمام بالأعمال "الاستعراضية الغنائية" سواء أفلام فريد الأطرش وسامية جمال وأنور وجدى والطفلة المعجزة فيروز وإسماعيل ياسين ومحمد فوزى وصباح وشادية وعبد الحليم حافظ، وثلاثى أضواء المسرح الضيف وجورج وسمير، وصولاً إلى القطعة الفنية النادرة "غرام فى الكرنك" وصولا إلى خلى بالك من زوزو.
نأتى إلى أغنية "زمان وكان يا ما كان" وكانت واحدة من الأغنيات الرائعة المعبرة لملحنها كمال الطويل، وأداها ببراعة عبد المنعم مدبولى، وكانت عبارة عن نص شعبى فلسفى توازنت فيه المعانى والألفاظ والمشاعر والأفكار. وما زالت الأغنية تمثل واحدة من أفضل الأغانى لدى نقاد السينما ودليل على أن المخرج كان عرف كيف يقدم أغنية سينمائية فى التوقيت الصحيح درامياً ونفسيا. كما قال الناقد طارق الشناوي، حسين كمال قدم عبد المنعم مدبولى بأغنية تُعد من أروع ما قدم الفنان الراحل فى حياته الفنية وبأداء متميز فى واحد من أجمل أفلامه.
وقبل 47 سنة أجرت مجلة الكواكب حوار مع العندليب عبد الحليم حافظ حول مستقبل الأغنية فى ذلك الوقت، أشاد عبد الحليم بأغنية "زمان" لعبد المنعم مدبولى من فيلم "مولد يادنيا"، حيث قال عنه أن أداءه رائع، وكان داخل المقام الموسيقى وقمة فى الاداء العظيم مؤكدا ان الجمهور كان يبكى مع صوت مدبولى للأغنية.
وقال الفنان عبد المنعم مدبولي عن الأغنية: "اللى ساعدنى كنت محتفظ فى ذاكرتى بصورة سواقين الحناطير بيقفوا قدام مدرستى فى ابتدائى حى باب الشعرية لابسين البدل السودة المستعملة ومستنيين أى حد يطلبهم فى جنازة علشان يمشوا قدامها فى مجموعات أو يطلبوهم يقدموا قهوة فى أماكن العزاء وواقفين طول النهار والليل مستعدين لاى شغل يجيلهم.. أنا عاصرت الناس دى وشوفتها فى أزهى وأقوى عصورهم، وشوفتهم فى اكثر لحظات بؤس وشقاء وحزن لما مهنتهم بدأت تنقرض بسبب ظهور السيارات والعربيات الأجرة".
وقالت عفاف راضى عن الأغنية: "أذكر أننى حضرت تصوير أغنية عبد المنعم مدبولى، (زمان وياما كان)، التى تضمنها الفيلم، وشاهدت حسين كمال يمثل لمدبولى الأغنية قبل التصوير، وقد كان مبهرًا فى أدائه".
أما قصة الحصان شنكل الحصان الأشهر فى تاريخ السينما المصرية، والذى شاهدنا اسمه على تتر الفيلم، وجسدت علاقة من نوع خاص بين صاحب الحنطور “ريشة” وبين حصانه بعد أن انخفضت معدلات الطلب على الحنطور كوسيلة مواصلات بعد ظهور سيارات الأجرة فهى قصة قصة مثيرة.
فقد قررت شركة صوت الفن الاستعانة بحصان فى أفلامها، ودخلت فى مفاوضات مكثفة مع السيرك القومى لاحتكار جهود الحصان "شنكل" الفنية، ووافق السيرك بعد اشتراط أجر الحصان 50 جنيها يوميا، ومنح أجر لمدربه الخاص، وأيضا بدل غذاء للحصان، وحدد السيرك 4 ساعات يوميا للعمل مع شركة صوت الفن، حتى يستطيع الحصان تقديم فقرته فى السيرك القومى مساء. وظهرت فيه علاقة ريشة بحصانه شنكل، مشاهد مترابطة يحدث فيها ريشة الحصان ويستشيره فى كل الأمور، ووصلت ذروة العلاقة حين قرر ريشة بيع شنكل ليدفع كفالة خروج أبطال الفرقة الاستعراضية من السجن، وحين يعود شنكل تقيم له الفرقة زفة تليق ببطل ضحى بنفسه حتى يخرج العمل الاستعراضى إلى النور.