كنا قد قدمنا فيما سبق عوامل ثلاث هم "العلة الغائية" و"التفكير الثنائي" و"ادراك الزمن" والتى أدت إلى الكثير من الأخطاء فى التفكير وبناء العقل الإنسانى على مر العصور. هناك خطأ رابع لم يقدره الإنسان عظم ما أقدم عليه حين بدأ بحثه عن "الحقيقة". ولم يدرك أن اختلاف الحقيقة فى مذاهب التفكير المختلفة يثير الشك فيها كلها - مهما يكن من صوابها - فى بعض وجوهها.
الحقيقة فى التفكير الدينى هى ما أنزل الله تعالى على عباده وما هداهم إليه. وهو فرض عظيم له من شموله وقوته وكماله ما ينزع سلاح معارضيه. وهو أكثر المذاهب استقرارا، وأقدرها على تفسير كل ما يتعرض له الإنسان من صعوبات وليس فى ثناياه ضعف يمكن أن ينفذ إليه منه النقد أبدا.
ولكن هذا الكمال نفسه خلق فيه هنات لم تلبث أن ظهرت لدى بعض المفكرين، وقد حملت الكثيرين على الشك فى الحقيقة كما يصدرها الدين فأنكروها وكفروا بالله عز وجل. وأكبر هذه الهنات أن التفكير الدينى لم يستطع تعيين صفات الذات العليا العليمة القديرة إلا بما هو إنسانى، وأنه لا يعبأ بتفاصيل النظام الكونى ولم يفسرها، وأنه لم يبين لم أحتاج تمجيد الله إلى هذا التعقيد البالغ فى الكون وكان يصح أن يتحقق بما هو أبسط وأوضح (وليس هذا على الله بعسير).
فالحقيقة عندهم تنحصر فى إرادة الله ثم حدوا التماس الحقيقة فى نظام أخر أقرب إلى الفهم الانسانى والتنظيم العقلى، وإن يكن أقل كمالاً وعظمة. ثم حملوا لواء هذا البحث الفلسفى، ولكن عدتهم فى ذلك كانت أضعف وأكثر قصوراً. ذلك أنهم حسبوا الحقيقة شيئاً محدداً يحجه عنا نقص علمنا، وضعف جهاز العقل الذى نبحث به عنها. وخيل إليهم أننا إذا زاد علمنا وتحسن جهاز التفكير عندنا، فإننا نبلغ الحقيقة العليا التى إذا بلغناها تكشف لنا اسرار الكون فتقرأها عند ذلك كأنها كتاب مفتوح. وهذا هو أثر من أثار التفكير الخاطئ الذى يبدأ بأواخر الأمور والمعقد منها ولم يخلص التفكير الفلسفى من هذا العيب حتى بعد أن بدأت نظرية التحليل الديكارتى.
والواقع أنه ليست هناك حقيقة بهذا المعنى، وليس إخفاقاً فى بلوغها راجعاً إلى نقص فى جهاز التفكير والبحث عنها كما تصور هؤلاء، وإنما يرجع ذلك إلى عدم وجود هذا النوع من الحقيقة فى الأساس الكونى الذى خلقه الله عز وجل وليس التحليل وسيلة لبلوغ الحقيقة، وأن يكن فقط وسيلة ناجحة فى بلوغ الحقائق الصغيرة والتفاصيل التى سمح لنا الله تعالى ببلوغها. أما الكليات فأمرها أبعد عن قبول البراهين من التعاريف، لأن التعاريف معادلات يمكن ضبطها رياضيا مهما يكن تعقيدها أما الكليات فإنها تقوم على برهان واحد هو مطابقتها للمعقول. وإذا كانت تصلح لتوضيح نظام العقل فهى لا تصلح لفهم طبيعة الأشياء. ومن أبسط الكليات الفلسفية استحالة اجتماع النقيضين كالحرارة والبرودة مثلاً. ولكن إذا تبين أن الحرارة والبرودة درجات لشىء واحد هو حركة جزيئات جسم بعينه، فلا يكون بينهما تناقض إذا.
وليس هناك كلية لا تقوم على تعريف لفظى، وليست لأحدها قدرة على تحديد العلاقة بين شيئين. وهى لا تمهد السبيل لمعرفة علاقة حقيقية عند البحث فى القوانين الكونية. أما إذا عرفت هذه القوانين معرفة تامة، فإن الكليات تصبح عديمة القيمة فى البحث عن الحقيقة، وهذا هو للأسف ما لا يفعله الإنسان وعليه يكون الوصول للحقيقة من أصعب مهام البشرية، وهذا هو الخطأ الرابع فى التفكير الانسانى!
• أستاذ الاقتصاد السياسى والمالية العامة – جامعة القاهرة.