كنت أتمنى ألا يمر يوم 28 فبراير الحالى، دون أن تبرز مصر أهمية هذا اليوم فى هذا العام على وجه التحديد.
من المفترض أن نحتفى جميعاً بهذا اليوم، الذى يوافق صدور تصريح 28 فبراير عام 1922، والذى أقر إلغاء الحماية البريطانية على مصر.
القضية لم تكن مسألة إلغاء الحماية بقدر ما هى اعتراف بمصطلح أصبح سمة للنصف الأول من القرن العشرين، وهو "الدولة المصرية"، المصطلح الذى كان نتاجاً لكفاح المصريين منذ اندلاع ثورة 1919، وكذلك الاتجاه الوطنى العام إلى فكرة الاستقلال عامة، والاستقلال السياسى على وجه التحديد، وتبعه مصطلح آخر امتد إلى كل مناحى الحياة، وهو مصطلح "التمصير"، وهو مبدأ شعبى أقرته الجماهير، فى تمصير كل ما هو أجنبى، تحت شعار " مصر للمصريين".
قد يرى البعض أن هذا الاستقلال لم يتحقق على أرض الواقع، إلا أنه فتح الباب أمام موجة "الاستقلال" التى اتخد منها المجتمع المصرى شعاراً، لكل تفاعلاته وانفعالاته الثورية فى السنوات التى أعقبت هذا التاريخ.
الشرارة الحقيقية لتصريح 28 فبراير 1922، بدأت قبل أسابيع من هذا التاريخ، وتحديداً فى ديسمبر 1921، عندما وجه الزعيم سعد زغلول نداء إلى الأمة المصرية، وقال مقولته الشهيرة: "فلنثق إذن بقلوب كلها اطمئنان، ونفوس ملؤها استبشار، وشعارنا الاستقلال التام أو الموت الزؤام".
كانت نتيجة هذا النداء اعتقال سعد زغلول وخمسة من رفاقه، فى 23 ديسمبر 1921، وتم نفيهم إلى عدن، ثم إلى جزر "سيشل" فيما بعد.
الملفت أن تصريح 28 فبراير، كان المحور للنقاش بين الجنرال "أللنبي" ورئيس الوزراء عبد الخالق ثروت، والذى تضمن مبدأ عام وهو، إلغاء الحماية على مصر والاعتراف بالدولة المصرية، كدولة مستقلة، وإنشاء برلمان يضم هيئتين النواب والشيوخ وإعادة وزارة الخارجية تحت السيطرة المصرية.
فى صباح يوم 14 مارس عام 1922، كان المانشيت الرئيسى لصحيفة "الأهرام" "إعلان استقلال البلاد المصرية"، ومنذ ذلك التاريخ أصبح حاكم مصر "ملكاً" وليس سلطاناً، وأصبحت الدولة تتمتع بقدر من الاستقلال بعيداً عن الحماية البريطانية.
كان أهم مظاهر هذا الاستقلال، هو الاستقلال الاقتصادى، الذى أصبح شكلا من أشكال "المقاطعة"، التى حققت لأبناء هذا الوطن متطلباتهم، ومكنتهم من الاستغناء عن الوارد من الخارج.
وسعياً منها نحو الاستقلال، اتخذت مصر كل الإجراءات التى تكفل قيام وظهور دعائم لهذا الاستقلال الوطنى، ومنها الكيانات الاقتصادية الكبرى للشركات والمصانع. وإذا كان "ملك مصر" هو الجالس على عرش البلاد، فإن هناك ملوك آخرين كانت لهم عروش لا تقل أهمية عن عرش البلاد!
النهضة الاقتصادية التى أفرزتها ثورة 1919. وظهور بنك مصر عام 1920 حفزت كيانات جديدة على الظهور وتوسيع أنشطتها، وأصبح ملاكها هم "ملوك" الرأسمالية الوطنية فى مصر، ومن بينهم عدد من الرموز الهامة للحركة الاقتصادية المصرية كالمهندس أحمد عبود "عبود باشا" صاحب مصانع السكر بالحوامدية، ومالك أضخم أسطول نقل بحرى فى الشرق الأوسط خلال النصف الأول من القرن العشرين. وكذلك محمد سيد ياسين بك "ملك الزجاج" وفرغلى باشا "ملك القطن" .. وغيرهم من الأسماء اللامعة، الذين أصبحوا "ملوكاً" على عرش الاقتصاد المصرى!
استقلال مصر فتح الباب، أمام أهم دستور عرفته مصر فى عصرها الحديث، وهو دستور 1923، وعرفت مصر على أساسه أول برلمان شعبى، كان نتيجة لأول انتخابات حرة بدأت فى أكتوبر 1923، وانتهت فى يناير 1924، ولذلك عرف البرلمان باسم " برلمان 1924".
مصر كلها مطالبة أن تحتفى بمئوية "الاستقلال" .. ولتكن بداية لاحتفالات بمئوية أخرى..