العديد من الحقائق ربما كشفتها العملية العسكرية الحالية التى تشنها روسيا فى الأراضى الأوكرانية، بعد شهور من الشد والجذب، ربما أبرزها التأكيد على انهيار الهيمنة التى حظى بها "المعسكر الغربي"، بقيادة الولايات المتحدة، خاصة مع تراجع القوانين الحاكمة فى هذا الإطار وعلى رأسها "صراع الأيديولوجيات"، والتى كانت بمثابة "رأس مال" واشنطن، مع نهاية الحرب الباردة، وانتهاء حقبة الاتحاد السوفيتى، حتى أن أمريكا سعت إلى استبدالها بما يسمى بـ"صراع الحضارات" فى أعقاب أحداث 11 سبتمبر، لتكون بديلا للصراع بين الشيوعية والرأسمالية، وهو ما سبق وأن تناولته فى مقالات سابقة، فأصبحت الأحادية الأمريكية خلال ثلاثة عقود من الزمان لا تقتصر على القيادة الدولية، وإنما امتدت إلى الجانب الأيديولوجى فى ظل هيمنة رأسمالية، وعسكريا، فى ضوء قدرة واشنطن على فرض رؤيتها بالقوة العسكرية، إذا رأت ضرورة لذلك.
إلا أن عودة روسيا إلى مكانتها الدولية، ونجاحها المنقطع النظير، فى ملء الفراغ الأمريكى، فى زمن التراجع، ناهيك عن الصعود الصينى الكبير، أعاد التعددية تدريجيا، بدءً بتقاسم القيادة، وهو ما يبدو فى التوغل الروسى فى العديد من مناطق العالم، من الشرق الأوسط، عبر البوابة السورية، مرورا بآسيا، عبر التحالف مع بكين، وحتى اقتحام أوروبا الغربية، والتى تعد بمثابة عمقا استراتيجيا وحصنا حصينا للوجود الأمريكى على قمة هرم السياسة الدولية، عبر أنابيب الغاز، وهو ما يفسر حالة من الارتباك فى التعامل الأوروبى الحذر، والمتأخر، فيما يتعلق بالإجراءات التى اتخذتها بعض دول القارة تجاه موسكو كرد فعل على التصعيد الروسى الذى غاب عن توقعات الغالبية العظمى من الخبراء والمحللين، بينما نأت دولا أخرى عن اتخاذ إجراءات حقيقية مؤثرة.
وهنا تتجلى حقيقة جديدة من رحم العملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا، تدور حول انقسام المعسكر الغربى، والذى كان توحده خلف واشنطن، هو السر وراء هيمنتها، على أساس صفقة ضمنية يعود تاريخها إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، تقوم فى الأساس على دوران أوروبا الغربية فى الفلك الأمريكى، بما تملكه من نفوذ تاريخى وتأثير اقتصادى، ومكانة جغرافية، مقابل الحصول على الدعم السياسى والاقتصادى من الولايات المتحدة، وهى الصفقة التى تخلت عنها واشنطن فى السنوات الأخيرة، عبر العودة لزمن التعريفات الجمركية تارة، والتلويح بالانسحاب من الناتو تارة أخرى، ناهيك عن الدعم الأمريكى لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، تارة ثالثة، فى خطوات ساهمت فى تقويض الثقة بين الجانبين، وبالتالى لجوء أوروبا الغربية إلى التعاون، ولو جزئيا، مع خصوم أمريكا، وعلى رأسهم روسيا.
عودة التعددية شهدت مرحلة جديدة، مع بزوغ الدور العسكرى لمنافسى واشنطن على قمة النظام الدولى، وهو ما بدا أولا فى دخول روسيا على خط الأزمة السورية، فى 2016، بعدما فشلت قوات التحالف التى شكلتها الولايات المتحدة فى دحض داعش، وتقوم بدور كبير فى الحرب على الإرهاب فى العراق، بينما تصبح العملية العسكرية فى أوكرانيا، بمثابة دليل جديد على نهاية الهيمنة العسكرية الأمريكية، عبر تقديم موسكو نفسها على العالم، وفى القلب منه دول المعسكر الغربى، باعتبارها القوة القادرة على فرض رؤيتها بالقوة العسكرية، إذا ما كانت هناك ضرورة لذلك، ليس فقط على دولة بعينها، وإنما على تحالف مكون من أعتى الدول من حيث الإمكانات العسكرية والاقتصادية، غير عابئة بما سوف تسفر عنه الخطوة من تداعيات.
ولعل المستجدات التى طرأت على العالم فى السنوات الأخيرة، ساهمت فى إضفاء المزيد من الزخم على الدور الذى يمكن أن يقوم به خصوم واشنطن، مع بزوغهم بصورة كبيرة فى التعامل مع الأزمات المستحدثة، على غرار وباء كورونا، ونجاح الصين الكبير فى السيطرة عليها داخليا، ثم الامتداد لتقديم يد العون لدول العالم، أو قضية التغيرات المناخية، التى فشل الغرب بإمكاناته لسنوات طويلة فى احتوائها، فى ظل رؤية "رأسمالية" متوحشة، لا تسعى إلا لتحقيق النمو الاقتصادى على حساب باقى دول العالم، لتحقيق المصلحة الضيقة، بعيدا عن المصلحة الجماعية للمجتمع الدولي.
وهنا يبدو العالم، فى مرحلة قريبة، على موعد مع تعديلات "أيديولوجية"، ربما لن تتخلى عن النهج الرأسمالى، وإنما ربما عبر إضفاء طابعا إنسانيا عليه، من خلال الاهتمام بالمصالح الجماعية لدول العالم، عبر تقديم فرص تنموية حقيقية للدول النامية، مقابل التزامها بالمعايير المرتبطة بعملية التنمية المستدامة، وذلك للتغلب على الأزمات الجديدة، وعلى رأسها أزمة التغير المناخى، والتى تمثل تهديدا خطيرا للكوكب بأسره
وهنا يمكننا القول بأن "التحول نحو التعددية" يمر بالعديد من المراحل، بينما تبقى العملية العسكرية الأوكرانية أكثرها بروزا وحسما، إلى الحد الذى يمكن معه القول بأن الخطوة الروسية هى بمثابة إعلان رسمى لتغير وجهة العالم، وهو الأمر الذى أعرب عنه قطاع كبير من الساسة حول العالم، فى انعكاس صريح لنهاية الهيمنة الأحادية، التى سيطرت على العالم منذ عقود.