"نورد ستريم 2" .. هو الاسم الفعلى والحقيقى للحرب الدائرة الأن على الأراضى الأوكرانية، فالصراع الجارى والذى تلخصه العمليات العسكرية للجيش الروسى داخل أوكرانيا - إحدى دول الاتحاد السوفيتى السابق - صراع يبدو فى ظاهره عسكرى سياسى، لكنه فى باطنه تجارى اقتصادى وعلاقات دافئة بين روسيا والاتحاد الأوروبى وتحديدا بينها وبين ألمانيا، الدولة الأكبر اقتصاديا فى أوروبا والمستهدفة من هذه الحرب.
"نورد ستريم 2 " هو خط الغاز الذى تم الاتفاق عليه منذ 7 سنوات وبلغت استثماراته 10 مليارات يورو، بطول 1230 كيلو مترا، وحال تشغيله بطاقته الكاملة فإنه سوف يضاعف حجم تصدير الغاز المباشر من روسيا إلى ألمانيا إلى 110 مليارات متر مكعب سنويا، وينطلق من روسيا مرورا بأوكرانيا ودول أوروبية أخرى.
العمل فى تنفيذ المشروع اكتمل فى سبتمبر الماضى، لكن لم يتم التشغيل بعد انتظارا لموافقة الهيئات التنظيمية فى ألمانيا والاتحاد الأوروبى، فيما علق منظم الطاقة الألمانى إجراءات الموافقة على الخط، حتى النصف الثانى من العام المقبل.
تلك الأموال الطائلة على خط الغاز الروسى إلى أوروبا أثار مخاوف عديدة لدى الحليف القديم فى واشنطن، فما وراء الخط من تدفئة وانتعاش وسياحة وتجارة وازدهار تجارى وعلاقات سياسية قوية وربما عسكرية بين موسكو وعواصم أوروبية أهمها بالطبع برلين يعنى الكثير بالنسبة لواشنطن، فحسب وسائل إعلام أمريكية قريبة الصلة من دوائر البيت الأبيض والبنتاجون، فإن الخط الروسى يرسم ملامح عالم جديد متعدد الأقطاب وفى القلب منه روسيا القوية بقيادة الثعلب فلاديمير بوتين ومن ورائه الصين، وهو ما أثار المخاوف لدى دوائر صنع القرار فى واشنطن والتى رأت ضرورة البحث ومحاولة تعطيل المشروع وعرقلته بوسائل أخرى مقنعة لكل الأطراف... كان لا بد من بروز العامل الأوكرانى الذى يستفز بشكل دائم موسكو خاصة مع إعلان كييف رغبتها فى الانضمام الى الاتحاد الأوروبى وحلف الناتو، وبالتالى وصول القواعد العسكرية الأمريكية على بعد أميال من موسكو وروسيا عامة على طول الحدود الروسية.
الكل يتفق أن مشروع الخط الروسى هو مشروع اقتصادى - كما صرح المستشار الألمانى شولتس - بعيدا عن السياسة، إلا أن تعقيد الأزمة يدفع بالخط إلى قلب الصراع وصلب المواجهة وهو ما يثير تساؤلات حول من الفائز ومن الخاسر فى حال توقف المشروع بشكل دائم.
بعض الخبراء ينظرون إلى ما يحدث وتصعيد الصراع أنه بمثابة اختبار من واشنطن لألمانيا وأوروبا لابتلاع الطعم وتجميد مشروع نورد ستريم 2 فى ظل حديث واشنطن عن الاستعاضة بالغاز الروسى بغاز جنوب وشرق وغرب المتوسط، وهو الحديث الصريح الذى يظهر لأول مرة فى أدبيات السياسة الخارجية الأمريكية.
المسألة إذن ليست نتائج الحرب الدائرة ومن يكسب ومن يخسر، لكن هى قضية خط الغاز الروسى إلى ألمانيا ومن يفوز ومن يخسر فى حالة تجميد المشروع وبالتالى محاصرة المكاسب السياسية والاقتصادية والتجارية لروسيا مع أوروبا.
حتى الآن لم تستخدم روسيا - ولو تصريحا ومناورة - ورقة خط الغاز نورد ستريم 2 والتلويح بها ضد أوروبا، والتصريحات كلها تأتى من الطرف الغربى وواشنطن.
هناك اتفاق أن الخاسر الأكبر اقتصاديا هى ألمانيا التى قررت بدء خطة استراتيجية طويلة المدى للاعتماد على الطاقة المتجددة والنظيفة ومنها بالطبع الغاز الطبيعى بعد أن تخلت عن الطاقة النووية، لكن مصادر الطاقة المتجددة فى ألمانيا لن تولد سوى القليل جدا من الكهرباء فى المستقبل المنظور، وتجد ألمانيا نفسها فى مأزق خاصة وسط ضغوط ومطالب من الولايات المتحدة لاستخدام خط الغاز "نورد ستريم 2" كورقة ضغط لردع روسيا عن أى توغل يستهدف أوكرانيا، فضلا عن مخاوف من أن يؤدى الاعتماد على هذا الخط إلى الإضرار بقطاع الطاقة فى الاتحاد الأوروبى.
بولندا وأوكرانيا تجنيان الكثير من الأموال نظير عائدات رسوم العبور التى تدفعها شركة غاز بروم مقابل مرور الغاز الروسى عبر أراضيهما إلى أوروبا الغربية.
على الجانب الروسى فإن تقارير مراكز دراسات الطاقة العالمية تشير إلى أن حالة الجدل حول "نورد ستريم 2" قد تصب فى صالح بوتين. وأن "استمرار الجدل حول نورد ستريم لن يؤثر سلبا على بوتين من الناحية السياسية إذ إن القضية تثير انقسامات وخلافات بين البلدان الأوروبية من جهة وبين الولايات المتحدة وبعض حلفائها الأوروبيين من جهة أخرى.
الولايات المتحدة الأمريكية تخشى أن يتحول الغاز إلى أبواب خلفية مشرعة للعلاقات الاستراتيجية والمتنامية بين روسيا وألمانيا، والتى قد تصبح البديل القوى والاستراتيجى للزواج الكاثوليكى الألمانى - الأمريكى، وتصبح قواعد أميركا العسكرية فوق الأراضى الألمانية لا ضرورة لها فى ظل العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والتجارية بين موسكو وبرلين.