المشهد الشعرى العربى الجديد، مشهد غنى كما وكيفا، زاخر بأصوات عديدة من المراكز الثقافية العربية الأساسية «مصر - الشام - العراق»، ومن خارج هذه المراكز الأساسية، من الخليج والمغرب العربى والسودان، وفى ظنى أن هذا الزخم الشعرى قد جاء نتيجة عوامل عدة فى مقدمتها التطور الذى لحق وسائل الاتصال، فلم يعد الشاعر أو القارئ العربى فى موريتانيا بحاجة إلى الذهاب إلى القاهرة أو بيروت، والإقامة فى أى منهما حتى يتعرف على الاتجاهات الجديدة فى الشعر والنثر، بل بإمكانه بضغطة زر على حاسوبه الشخصى أن يتعرف على معظم النماذج الشعرية فى هذه العاصمة العربية أو تلك، بل وفى المهاجر العربية، ومن ثم أصبحت مشاركة الشاعر أو الكاتب فى موريتانيا أو البحرين فى إنجاز النص الجديد بارزة وفورية، فجسور الالتقاء مقامة ومفتوحة على مدار الساحة، وإمكانية الحوار لا يعوقها مزاج الرقيب أو العسكرى أو رجل الحدود، كما كان سائدا فى عقود سابقة.
فى قلب هذا المشهد الشعرى العربى الجديد تقف قصيدة النثر باعتبارها ممارسة للحرية وتعبيرا عن إرادة فردية، ومشروعا واعدا دائما، فقد تطابقت القصيدة مع حيوات شعرائها وخيباتهم وانتصاراتهم الصغيرة، كما تطابقت مع مفاهيمهم للتحقق، سواء كانت هذه المفاهيم خارجة من رحم الممارسة الشعرية والثقافية، أو كانت خارجة من احتجاج اجتماعى، سياسى، سيان الأمر، وتظل مع ذلك القصيدة مفتوحة على احتمالات التوافق بين نجاح صاحبها فى الإمساك بجديد على المستوى الجمالى، واجتراح المختلف على مستوى الرفض والتمرد الاجتماعى السياسى.
الشعر المصرى الجديد فى قلب المشهد الشعرى العربى منذ عشرين عاما تقريبا، بعد أن تجاوز حقبة السبعينيات القاحلة إبداعيا، فقد عبر الشعراء المصريون مع مطلع الألفية الجديدة مأزق الشعراء السابقين الذين اعتمدوا التهويمات اللغوية والإحالات الصوفية المعماة أو الزخرفة اللغوية للتغطية على عجزهم عن الإفصاح وعلى ضعف الموهبة وغياب الحدس الشعرى الخلاق.
الشعراء المصريون الجدد تجاوزوا مأزق أسلافهم القريبين إلى نوع من الحرية والانفلات، وإلى التعبير عن النفس وعن فردية كانت غائبة فى ظل هيمنة القطيع لفترة طويلة، انفلات من أسر تصميمات جمالية وتقسيم مجانى للشعرية العربية بين بيروت والقاهرة، ومن ثم أصبحنا أمام أصوات عديدة واعدة كمشاريع شعرية تنمو باطمئنان، ولا تنشغل بتصنيف حضورها تحت راية اقطاب سابقين، أو طريقة فى التعبير.
لا أقول إن هذا الأمر كفيل بإنتاج شعراء كبار ضمن قوس الشعرية العربية المتطور، بل أقول إن مناخ الحرية والانفلات والفردية يمكن أن ينتج شعراء كبارا أو إضافات مهمة إلى الشعرية العربية، فهو يزيل الكوابح والمحددات عن أفق التعبير، ويمنح كل شاعر فرصته كاملة ليتقرب من نفسه، ولينظر فى مشروعه الجمالى ويقول ما لديه دون ضغط من إرهاب الصيغة.
عندما أصدرتُ مجلة «شعر»، المعنية بقصيدة النثر وتقاطعاتها، منذ أكثر من عشر سنوات، كنت أظن أننا فى حاجة ماسة إلى إصدار يقترب من جوهر قصيدة النثر المصرية وتخومها وينابيعها السرية وكيف تتقاطع مع مختلف أنواع الفنون والتعبير، خاصة أن الجهود النقدية كانت ولا تزال فقيرة إلى حد كبير ولا تستطيع الإحاطة بانفجارات الخيال والتعبير فى الشعرية الجديدة ولا تستطيع فهم معنى أن تكون القصيدة توترا دائما يشبه حركة الحياة كما تمارسها الكائنات، جدلا مطردا ودائما بين الموجودات، لا مكان فيه للموت، لا مكان فيه للثبات، ولادة جديدة فى كل لحظة، لا استعادة لما يتحقق من الإبداع، بل استشراف ما لم يتعين بفعل قدرة الشاعر ورؤيته وخياله وأحلامه.